الروائي إبراهيم عباس: «حوجن» صديقي .. و«الدمعة» كانت سيدة الموقف عند كتابتها
أثار الجدل في أولى رواياته، إلا أنه ظل ثابتاً ولم يرهب بعض الأقاويل فيه، التي وصلت إلى حد تكفيره واتهامه بالشعوذة، وما بين هذه وتلك ومع محاولاتنا استفزازه وإظهار “حوجن” المنفعل في ردوده، لم نستطع الوقوف إلا على إجابات واثقة، أبانت أن الحق في الكتابة ليس حكراً على أحد، وليس للقواعد مكان في موطن الشغب. إبراهيم عباس الذي وصف “حوجن” بالصديق، غاص العوالم الأخرى حتى تيقن أنه شخصية أصدق من الواقع، فكان هذا الحوار:
إبراهيم عباس .. لنبدأ بالسؤال الذي يدور في خلد الجميع : من يكون “حوجن”؟
حوجن هو صديقي الحاضر الغائب، الذي أغراني بنقل كتاباتي من أدراجي الخاصة إلى أرفف المكتبات العامة، صديقي الذي أحار في الإجابة كلما سألوني إن كان يمت للواقع بأي صلة؛ لأن الواقع نسبي، وما يهم هو التأثير في الوجدان، وبهذا التعريف أستطيع أن أعتبر حوجن أكثر واقعية من أناس كُثر “حقيقيين” في حياتي.
هل تعمدت اللعب على وتر الفضول الذي يتملك قراء "الروايات"؟
أسلوبي في الكتابة تلقائي جداً، لا أمر بمراحل من التخطيط والتمحيص قبل الكتابة، كل ما في الأمر أن إحدى الأفكار التي تدور في رأسي تبدأ بممارسة الشغب؛ كي أحررها من أسوار جمجمتي، فأبدأ بكتابة أول كلمة، وأغوص في غيبوبة أفيق منها على كلمة "النهاية"، قد أعتبر نفسي مغرماً بالتقولب في دواخل شخصيات أخرى، فتزداد متعتي بذلك التقولب كلما كانت الشخصية أكثر صعوبة (جني، أو ميّت، أو حورية)، وقد ينتج من ذلك كثير من الفضول الذي لم أخطط له.
الرواية أو الكتابة عامة تعتمد على أدوات لا يملكها كل من أرادها، فهل الإثارة أبرز أدواتك؟
مرة أخرى، تشعرينني بحقيبة الأدوات المعدنية الحمراء الثقيلة المكتظة.. لا أملك حقيبة كتلك، في الواقع لا أملك أي حقائب، هما أداتان صغيرتان في سلسلة مفاتيحي: الأداة الأولى هي أنني أكتب ما يمتعني أنا، ما أحب أن أعاود قراءته والتفاعل معه ومع أبطاله وأحداثه، هذا هو الشرط الوحيد الذي يجب أن تتخطاه كل كلمة أكتبها، أما الأداة الثانية فقد اكتشفتها في جيبي بالصدفة، وهي أسلوب الرواية السينمائية التصويرية وشرح تفاصيلها قد يطول.
#2#
الجيل الجديد من الكتاب دائما ما يُهاجم لعدم تمسكه بقواعد الأدب والحبكة القصصية.. فكيف ترى هذا الصراع بين الجيلين؟ هل هو في محله؟
الرغبة في الصراع بين المختلفين ظاهرة متفشية بشكل أكبر في مجتمعات بعينها، وفي المقابل نجد مجتمعات أخرى تحتفي بالتنوع؛ كلمة "قواعد" في سؤالك مثال لأسلوب التفكير المتعالي الذي يبرر هجماته على كل جديد بأن هناك كهفاً في مكان ما يحوي صندوقاً خشبياً عتيقاً بداخله صفائح نقشت عليها "قواعد" دقيقة ومحددة للكتابة، وأن من يجرؤ على تخطيها يجب أن يقام عليه حد القذف بمخالفة السائد والعتيق.
هنالك نبرة سائدة بين العقليات التي لا تستوعب التجديد والتنوع، فنجدها تهابه وتهاجمه بشكل غير مبرر، مع وجود عقليات أكثر موضوعية تنقد وتحلل بشكل يفيد صاحب العمل في صقل مهاراته، أما القضية التي تلقت النصيب الأكبر من النقد، فهي استخدامي لهجات الأبطال في الحوارات، هناك من يشعر أن وجود عبارات باللهجة الدارجة بين طيّات النص القرشي (الفصيح) هي إهانة شخصية له، فمقامه أرقى من أن يطالع كتابات لا تستفيض في استعراض المهارات والتراكيب اللغوية تماشياً مع أمهات الكلاسيكيات الأدبية التي يتباهى باطلاعه عليها. هؤلاء من يقرأون رواية دعاء الكروان، ويأنفون من مشاهدة فيلم دعاء الكروان، هذه ذائقتهم، ولهم كامل الحرية في استحسان أي لون من ألوان الأدب الذي يتماشى معها، ولكن ليس من حقهم إنكار وجود فيلم دعاء الكروان، أو التقليل من قيمته بالذات وهو يتربع على قائمة أفضل أفلام السينما المصرية، ليس من حقهم أن يطالبوا آمنة (فاتن حمامة) بالتحدث باللهجة القرشية كيلا تُخدش ذائقتهم الأدبية، في الواقع لا أتخيل كيف سيصبح الفيلم لو سمعنا الفتاة الصعيدية تتحدث بالفصحى، الرواية السينمائية هي حالة بين هذا وذاك، حالة بين الرواية الكلاسيكية والنص السينمائي، لا أجرؤ على مصادرة العبارات التي نطق بها أصحابها وإعادة دبلجتها بالفصحى إرضاءً لبعض القراء، وبالمناسبة فإن كتابة الرواية السينمائية بالنسبة لي أصعب بكثير، بالذات عندما يبتعد الأبطال عن محيطي، ما سيضطرني إلى دراسة لهجاتهم. وأختم إجابتي بمعلومة لا يعرفها كثيرون، لقد بدأت كتابة حوجن كرواية كلاسيكية في البداية، خوفاً من هجوم كهذا، وبعد أن أتممت فصلها الثالث قررت أن أعيد صياغتها بالأسلوب السينمائي التصوري الذي شكل بالنسبة لي وقتها أكبر مجازفة.
أعلنت عن خوضك التجربة الثالثة بدمجك أبطال روايتيك، فما المغزى من إعادة إحياء "حوجن"؟ وهل هو ورقتك الوحيدة الرابحة؟
حسنٌ، سأكشف لك عن بعض الأوراق، التشقلب بين الخيال الشاطح والواقعية المربكة طابع يطغى على كتاباتي، أتمنى من خلال السلسلة أن أقدم نماذج لأبطال ذوي قدرات خارقة، ولكن بتبريرات أكثر منطقية مما اعتدناه على شاشات السينما وبين صفحات القصص، روايتاي حوجن وهُناك، تمهدان لتقديم هذا النوع من الأبطال: أبطال ذوي قدرات خارقة ولكن قد يعيشون بجوارنا، أو حتى داخل بيوتنا. ففي حوجن ظهر الثنائي حوجن وإياد، اللذان يمتلكان قدرات استغلال الأبعاد الموازية مع التحكم الكامل في بعدنا المادي، وفي "هُناك" ظهر حسام الذي أجاد السيطرة على عقله الباطن مع ذخيرة من الخبرات والمهارات التي أكسبته إياها ملاك في الأيام التي قضاها هُناك.. فيما ستكون "بنيامين" الملحمة التي تجمع أبطالنا لقضية أكبر بكثير من كل ما تناولته روايتاي "حوجن وهُناك"، خشيت الوقوع في أسر حوجن (كما وقعت جي كي رولينغ في أسوار هاري پوتر)، لذا تجاهلت نصائح كثيرين في اعتصار فكرة حوجن، وكتابة مزيد من القصص والأحداث عن عالمه، وقررت أن أغامر بكتابة الجزء الثاني من السلسلة "رواية هُناك" كقصة مستقلة تماماً، وبكل صراحة شعرت برعب شديد وأنا أترقب ردود أفعال القراء تجاهها بالذات، خوفاً من إحباط الذين تعلقوا بحوجن ويريدون أن يقرؤوا المزيد منه وعنه، ولكن ردود الأفعال أسعدتني جداً، وأشعلت حماسي لرواية بنيامين التي تدور في فلك آخر مختلف تماماً عن سابقتيها. حلمي هو أن تحظى كل رواية بنصيبها من الجماهير والمعجبين، وأن أنجح بمفاجأة القراء بما لم يتوقعوه في كل عمل.
من الأكثر تأثرا برواياتك: هل هن الجنس الناعم، أم الأكثرية من الرجال؟ وهل تظن أن العاطفة التي أشبعت بها الرواية كانت كفيلة بهذا الجذب؟
حرصت على استقراء ردود أفعال القراء والتفاعل معهم، وأدهشني التنوع والحوارات التي تجاوزت الأعمار والأجناس والانتماءات الجغرافية وحتى اللغوية (إذا أخذنا الترجمات في الحسبان)، ولكن ما لم أتوقعه هو أن نصيب حوجن من القارئات كان أكثر من هُناك التي شدت الجنسين بالتساوي تقريباً، أعتقد أن ما ذكرته صحيح، وهو أن جرعة العواطف الإضافية في حوجن هي السبب.
#3#
في سردك بعضَ الأحداث نراك أكيداً من صحتها؟ فمن أين لك هذا الجزم؟
بداية أود أن أؤكد: لو كنت أنوي كتابة الحقائق لوضعتها في مصنفات وبحوث، لا في قصص وروايات. ولكن.. هذا لا يعني أن أكتفي بالخيال فقط، في الواقع مرحلة البحث هي أكثر ما يستنزف وقتي وجهدي أثناء الكتابة، فأنا أحرص على الأقل على ألا أخطئ خطأ جسيماً (علمياً، تاريخياً، منطقياً، نفسياً.. إلخ) احتراماً للقارئ، ولو افترضت أنني سأكتب رواية (هندي على سطح المريخ)، فلا بد من أن أبحث في إنجازات الهند في مضمار السباق إلى المريخ، وخططهم المستقبلية بهذا الصدد، وعلي أن أدرس المدينة والبيئة التي احتضنت البطل، إضافة إلى الأبحاث العلمية في إمكانية سفر البشر إلى المريخ، وكل ما يمكن دراسته عن هذا الكوكب. باختصار؛ لا بد أن أعيش تفاصيل القصة، وأتقمص شخصيات أبطالها قبل أن أحاول إقناع الآخرين بها، وكل هذا لا يتأتى سوى بالبحث المضني.
هل لنا بالانتقال إلى "بنيامين"؟ وما الذي نترقبه؟
كانت الدمعة سيدة الموقف في حوجن، والبسمة طغت على أجواء هُناك، أما بنيامين فكتبتها بنَفَس لاهث متقطع، أُصابني بإعياء وصداع مع خدر في أطرافي بعد كتابة كل فصل، البحوث التي اضطررت إلى خوضها أضعاف ما قمت به أثناء كتابة حوجن وهُناك مجتمعتين. سأضطر إلى زيارة باريس وإرتيريا ولوس أنجلوس لصياغة بعض أحداثها؛ رواية بنيامين عبارة عن مغامرة تحتاج إلى مغامرة كي أستطيع كتابتها؛ ومع كل هذا يتضاعف منسوب التوجس عندي لردود أفعال الجمهور تجاهها.
هل نحن بحاجة لهذه النوعية من الروايات؟ في ظل الضعف الذي يعانيه المجتمع ومع كل الأحداث التي تدور من حوله؟
أنا مؤمن أن المعادلة السحرية للرقي بأي مجتمع هي: التفتح الذهني، ومقتنع أيضاً أنه لا توجد رياضة أروع من إطلاق الخيال لاكتساب اللياقات الذهنية، نعم، نحن بحاجة ماسة إلى كل ما يدفع شغف الخيال ويرفع سقف الإبداع في مجتمعنا، وأكثر ما يسعدني هو أن الجمهور أثبت تعطشه لتشرب الخيال، وموهبته في ضخه والمنافسة في ميادينه.
كيف يطور "إبراهيم عباس" أسلوبه الروائي؟
ليست لدي طقوس معينة مخصصة لتطوير أسلوبي الكتابي، ولكن هناك عادات مقتنع أنها تسهم كثيراً في تحسين ما أكتبه، أهمها شغفي بالتجارب الجديدة، فالروتين عدوي اللدود القبيح كريه الرائحة؛ العادة الثانية هي احتفائي بالتفاصيل في كل شيء تقريباً، أبحث عن المتعة بين دهاليز اللحظات، على وجوه الغرباء، في قهقهات الأطفال، بعد التهامي لآخر قطعة بسكويت في كوز الآيسكريم، في صوت انسياب أصابع العازف على أوتار الجيتار، وفي كل ثانية تسبق ظهور التتر بعد انتهاء الأفلام.. هكذا أنا.. جشع جداً.. لا أفوت تفصيلا دون التهامه بنهم، وهذا ما يجعلني أستمتع بلحظات حياتي في المقام الأول، أنشر تلك العدوى على من حولي، وأحصل على باقة لذيذة من الانفعالات التي أضيفها لرواياتي. آخر عادة أود ذكرها هي التساؤل المتواصل، لا أتوقف عن إنهاك عقلي بالتحليل المنطقي واستفزازه بالأسئلة المتكررة، ماذا؟ كيف؟ لم؟ ولم لا؟ قد تصنف هذه الحالة كمرض نفسي، ولكن ذلك لا يهمني، فأنا أستمتع جداً باقتحام هذه المتاهات المتكدسة بعلامات الاستفهام.
هل أنت بحاجة للاطلاع على كتابات من حولك لتصقل نفسك؟ أم تفضل الكتابة العفوية؟
أعترف أنني لا أقرأ الأعمال الأدبية إلا فيما ندر، فقراءتي في جلها لغرض البحث لا التسلية، ولم أتسلى بالقراءة وأنا أجد أضعاف تلك المتعة في الكتابة، لكنني أحياناً أطلع على الأعمال الأدبية لأغراض البحث والاطلاع والتحليل أيضاً.
ما الذي تتمناه للروائيين الجدد؟ وما تقييمك للمطروح اليوم؟
أتمنى أن تكتظ الساحة بالأقلام، أتمنى أن يرتقي سقف المنافسة صعوداً رأسياً مطرداً، أتمنى أن تشتعل المحاولات بنجاحاتها وإخفاقاتها، والأهم من ذلك كله أن يستغلوا الثورة التواصلية لينتزعوا الظهور الذي يستحقونه. لا أستطيع أن أطلق تقييماً موضوعياً لما هو مطروح اليوم، أحتاج إلى متابعة دقيقة قبل أن أتجرأ على التحليل، ولكن في الوضع الراهن التفاؤل سيد الموقف، والنقاشات التي استمتعت بها مع مجموعة من الكتاب الجدد تجعلني أجزم أننا بصدد طفرة كتابية جامحة.
هل سنرى روايات خالدة كروايات نجيب محفوظ، وغادة السمان، وحسين هيكل؟
أعتقد أن الجيل الجديد يمتلك من الحظ والفرص والأدوات ما يمكنه من إنتاج الخوالد، وإن اختلفت في طابعها عن الكلاسيكيات التي يُتغنى بها في المعتاد. العامل الوحيد الذي يقلقني هو الالتزام بجودة الإنتاج وغزارته في ظل انشغال معظم الكتاب بمتطلباتهم الحياتية الأخرى، وغياب المردود المادي المرضي لمهنة الكتابة.