كلود برنار .. «نيوتن الطب» ورائد المنهج التجريبي
كان كلود برنار (1813/ 1878م) يحلم في بداية حياته بالعمل في المسرح، لكن شاءت الأقدار أن يصبح باحثا في الطب وبفضول نهم وعزيمة عاليين، بالرغم من اعتلال صحته ومعاناته مع زوجته التي كانت مناهضة للتجريب على الحيوانات، فهو قام ببناء صرح مشروعه على تشريح الأرانب، "فوحشيته" تجاه حيوانات مختبره هي من أعلت من مصداقية أبحاثه ورفعت من شأنه إلى درجة أصبح فيها مكتوبا بخط عريض ضمن تاريخ الأشخاص الذين أسهموا في إرساء قواعد المنهج العلمي بكتابه الفذ الذي سنعمل على تعريف القارئ الكريم ببعض ملامحه وهو تحت عنوان "مدخل لدراسة الطب التجريبي" الذي لدينا له ترجمة بالعربية قام بها عمر الشارني عن دار بوسلامة للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة الأولى سنة 1982م، فضلا عن اكتشافاته العلمية المهمة ويكفي أن نذكر فهمه لدور البنكرياس في هضم الدهون، وفهمه لتحول السكر إلى جليكوجين في الكبد وأبحاثه حول الغدد الصماء كالغدة الدرقية والغدد ذات الإفرازات الخارجية مثل غدد العرق والغدد المعوية.
إضافة إلى تأسيسه لمفهوم الوظيفة، أي الدور الذي يؤديه كل عضو في الفسيولوجيا الإنسانية ومفهوم الوسط الداخلي باعتباره المجمل الفيزيائي والكيميائي الذي يغمر أنسجة الجسم.
إن ميزة كلود برنار تكمن في أنه وبعد طول إقامة في المختبر وبعد كل المنجزات التي حقق، قرر أن يظهر الطريقة التي اشتغل بها، والمسارات والدهاليز التي كان يمر بها وهو يرغم الطبيعة على البوح بأسرارها، وهو ما جمعه في كتابه الشهير سنة 1856م الذي سنلقي الآن نظرة عليه.
الجسد كآلة
عاش كلود برنار في القرن 19 م، حيث استب الأمر للعلوم الفيزيائية والكيميائية، أي علوم المادة الجامدة، التي كانت تعد آنذاك علوما مكتملة، فهذه الفترة عرفت نقاشا حادا حول إمكانية مباشرة الجسم الحي بالطريقة نفسها التي نباشر بها المادة الجامدة، فكان كلود برنار من ضمن المتحمسين للأمر حتى إنه قال: علينا أن نقلد علماء الفيزيوكيميائيين في منهجهم، كما يجب أن نتعامل مع الجسد الحي باعتباره آلة، بل هو يطالب الأطباء بإمكانية الاصطياد في الماء العكر والتجريب حتى على الإنسان وليس الاكتفاء بالحيوانات فقط، إذا كان ذلك سيعود على الطب بمنفعة تذكر.
#2#
لقد حاول كلود برنار في كتابه ذائع الصيت "مدخل لدراسة الطب التجريبي" أن يبرز نقط التشابه بين دراسة الأجسام الجامدة والأجسام الحية، موضحا أن تعقد الظواهر الحيوية هو ما جعل الفيزياء والكيمياء تكتمل بأسرع من العلوم الأخرى، لكن بالرغم من ذلك فإن تلقائية الأجساد لا تتنافى وإمكانية التجريب عليها، فكلود برنار كان يريد أن يوضح في كتابه كون أن علم الظواهر الحية لا يمكن أن يكون له أسس أخرى غير تلك التي للعلوم المتعلقة بظواهر الأجرام الجامدة، فليس هناك فرق في مبادئ علوم الحياة وعلوم الفيزيو كيمائية، فالحتمية تتجلى فيهما معا فإذا كان الفيزيائي قادرا على التحكم في الظاهرة المدروسة إما بإظهارها أو منعها، فهذا ممكن حتى في عالم الأحياء، حيث يمكن وضع الظاهرة في شروط معينة والتحكم فيها للنظر في الاستجابات التي تكون غالبا هي نفسها متى كانت نفس الشروط دائما.
إن قراءة كتاب كلود برنار وخاصة في جزئه الثاني المتعلق بالتجريب على الكائنات الحية يبرز، تأثره بالنزعة الآلية التي ترى العالم كآلة بما فيها الجسم فيقول "الجسد الحي ليس إلا آلة عجيبة مزودة بأبهر الخصائص ومتحركة بتأثير آليات غاية في الدقة والتعقد".
كما يقول: "للوصول إلى حل مشكلات الجسد الحي ينبغي تفكيك الجسد شيئا فشيئا مثلما نفكك آلة نريد أن نتعرف على كل دواليبها وندرسها..." وهذا المنهج الآلي القائم على التحليل يظهر بوضوح ديكارتية كلود برنار.
يضيف كلود برنار أنه إذا كانت مباشرة المادة الجامدة سهلة نوعا ما، فذلك لأنها مرتبطة بالوسط الخارجي الذي يمكن للعالم ضبطه بواسطة مقياس الحرارة أو الضغط الجوي أو أي أدوات أخرى، وهو ما يصعب مع الجسد لأن مباشرته انطلاقا من الوسط الخارجي لا تكفي فهو أصلا عبارة عن وسط داخلي يتكون من سوائل كالدم وكل الموائع العضوية الأخرى.
لهذا فدراسة الكائنات الحية يجب أن نأخذ فيها بعين الاعتبار الوسطين معا الخارجي والداخلي. وسر تأخر الطب القديم أنه كان يركز فقط على العلامات الخارجية وهي مجرد ملاحظات سلبية تجعل من الطب مجرد خبرة، وهي لا تكفي أبدا لإعطاء طب علمي كامل يؤدي إلى تلبية طموح كلود برنار وهو الهيمنة والسيطرة عن طريق الغوص في الوسط الداخلي بتجارب نشيطة تضبط العلل القريبة للاختلال الواقع بالجسد. لهذا يلقب كلود برنار بنيوتن "الكائن الحي".
الواقعة العلمية
يفرق كلود برنار في الجزء الأول من كتابه: بين الملاحظة والتجربة وذلك كالتالي:
1- الملاحظة: هي معاينة الأشياء أو الظواهر كما تقدمها لنا الطبيعة تلقائيا، فهي رؤية ساكنة وتكون بحسب كلود برنار دون فكرة سالفة موجهة. أي تمتاز بالعفوية فهي خامة وغفل.
2- التجربة: هي تدخل في الطبيعة، حيث يقوم المجرب بمساءلتها واستنطاقها وإرغامها على أن تتكشف، فالتجربة تكون مصطنعة ومستحدثة، فهي لا تقدمها الطبيعة تلقائيا، إنها تجريب فيها تخطيط إنساني وتوجيه محكم نحو غرض محدد يرتضيه الباحث، لذلك فهي نشاط موجه بفكرة سابقة.
بكلمة واحدة يقول كلود برنار: إذا كانت الملاحظة تظهر فالتجربة تعلم.
إن الملاحظة حسب كلود برنار ليست هي بداية العلم، فيمكن أن نكدس الأحداث والملاحظات بدون أن يزيد ذلك في علمنا، فالفكرة هي التي تمثل الانطلاقة لكل استدلال علمي، فالملاحظة ليست هي الأولى بالرغم من أنها هي البداية، فالوثبة الأساسية نحو الحقيقة، نحو ما هو علمي يكون في الفكرة، لأنها هي من تحرك التجربة.
ولكي يؤكد كلود برنار هذه الفروق بين الملاحظة العفوية والتجريب العلمي يقدم مجموعة من الأمثلة نذكر للقارئ مثالين منها قصد التوضيح أكثر:
المثال الأول:
عالم فلك ينظر إلى السماء، فيكتشف كوكبا يمر صدفة أمام نظارته، فهو يكون في هذه الحالة قد قام بملاحظة عرضية وساكنة يعني بدون فكرة سابقة. لكن إذا عاين فلكي اضطرابات في كوكب معين، فعاود النظر مرارا قصد البحث عن أسباب هذه الاضطرابات، فهنا سنقول إن ملاحظة الفلكي موجهة بفكرة، إذن فهي تجربة نشيطة.
المثال الثاني:
أحضر كلود برنار أرانب قصد إخضاعها لتجارب، لكن حدث شيء بالصدفة أثار انتباهه وهو تبول الأرانب على منضدة المختبر، والغريب أن بولها كان فاتح اللون وصافيا وحمضيا مثله مثل بول الحيوانات اللاحمة، على خلاف بول الحيوانات العشبية الذي يكون بالأصل مكدرا وحمضيا.
لقد كانت هذه بمثابة ملاحظة عفوية لم تكن بالحسبان، فافترض أن هذه الأرانب لربما تم تجويعها لمدة معينة فاقتاتت من جسمها اضطرارا، هذا الافتراض سيكون بمثابة محرك للتجربة قصد التأكد، فما كان عليه إلا أن يقدم للأرانب عشبا، فأصبح بولها مكدر اللون وغير حمضي، أي عاد إلى طبيعته الأصل، ثم قام بتجويعها من جديد لمدة 36 ساعة فتبولت بولا صافيا وحمضيا، فأعاد التجربة مرارا وتكرارا وحصل على النتيجة نفسها، بل قام بالتجربة نفسها على الخيول فأعطت هي بدورها النتيجة نفسها فتأكد افتراضه، فأصبح بالإمكان صياغة القانون التالي: كلما تم تجويع الحيوان العشبي استحال بوله إلى بول الحيوان اللاحم".
نخلص مع كلود برنار إلى تلك الخطوات الشهيرة الاستقرائية المسماة المنهج التجريبي وهي: أنه بعد الملاحظة التلقائية والساكنة، تولد فكرة أي افتراض، هذه الفكرة تؤدي إلى تجربة مستحدثة ومصطنعة ترغم الطبيعة على البوح بأسرارها، فيجد المجرب نفسه من جديد أمام ملاحظة أخرى وما عليه هذه المرة إلا أن يختفي كفاعل ويتحول إلى معاين للجواب إيجابا أو سلبا، بمعنى أن العالم بمجرد أن يطرح أسئلته على الطبيعة عليه بالصمت والسكوت أمام كلامها، فالعالم لا يجيب عوضا عن الطبيعة بل هو يحثها على الجواب فقط ويخضع بعد ذلك لقرارها.
ويبقى السؤال المحرج هو: هل توجد أصلا ملاحظة أولية بريئة تتم بالصدفة كما يدعي كلود برنار؟ أليست كل ملاحظة مثقلة بنظرية صريحة أو مضمرة؟ هذا ما انتبهت إليه ابستمولوجيا القرن العشرين .
* أستاذ الفلسفة ـ المغرب