«الفيل الأزرق».. في انتظار «الرغبة» التي لم تولد بعد

«الفيل الأزرق».. في انتظار «الرغبة» التي لم تولد بعد

"أنا فتات إنسان يتظاهر بأنه على قيد الحياة. أنا يونس في بطن حوت كافر. أنا الذي ينتظر لحظة الإظلام الأخير". يتمتم بتلك العبارة الممثل كريم عبد العزيز بحضور مميز، للفيلم المصري "الفيل الأزرق"، الذي لاقى احتفاء يوحي بتوق جماهيري لتلك الأفلام التشويقية المغايرة للنمطية.
هناك روايات تصلح لأن تكون عملاً سينمائياً أكثر منها عملا أدبيا. ويعدّ الفيلم المصري الأخير من تلك الأعمال، فالفيلم مقتبس من رواية أحمد مراد، بالاسم ذاته، والتي ترشحت في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لهذا العام. ولا يملك المرء إلا أن يعرب عن دهشته باختيار تلك الرواية، فعلى الرغم من أسلوبها السلس المثير الذي يدفعك لتقليب الصفحات بنهم، ومحاولة الوصول لنهاية الرواية، إلا أن الباحثين عن جماليات لغوية، ومستوى ثقافي معين في العمل الروائي سيصطدمون بخليط عجيب بين الفصحى والمصرية العامية إضافة للإنجليزية، كدلالة على توجهات جيل جديد من الشباب المختلط الثقافات.
وفي المقابل فإنه حين تصل إلى أذني المشاهد تلك الجمل مصاحبة لمؤثرات بصرية بديعة، ينطقها ممثلون تم انتقاؤهم بعناية، يبدو وكأن الفروقات اللغوية تذوب، وتتحفز كمشاهد للمتابعة والترحيب بقالب جديد لفيلم عربي. وهذا ما يميز فريق عمل الفيلم الأزرق، حيث غالبيته من جيل الشباب الطامحين لنقل رؤية مغايرة. فالمخرج مروان حامد، الذي أخرج أعمالاً ضخمة ناجحة أهمها "عمارة يعقوبيان"، يُظهر اهتماماً باختيار أعمال روائية حازت تهافت النقاد والقرّاء. معتمدا على نجاح تلك الروايات التي ستضفي على الأفلام التي سينتجها، بالضرورة، رواجاً أكبر.
أعد سيناريو الفيلم صاحب الرواية ذاته الشاب أحمد مراد، الذي قضى عامين في دراسة العوالم التي اختارها في الفيلم. وقد أعانته في ذلك دراسته للتصوير السينمائي، وتحويل روايته "فيرتيجو"، من قبل إلى مسلسل تلفزيوني ضخم بث في رمضان. وقد أظهر مراد توقه لمشاهدة "الرؤية الإخراجية للفيل الأزرق في السينما" ووصفها بأنها "تعمقت على يد المخرج مروان". أما حضور الممثلين فكان يجرف بالشخصيات المحورية في الفيلم إلى تيار آخر. فالممثل كريم عبد العزيز أتقن دور الدكتور يحيى، الذي يعود إلى مستشفى العباسية في 8 غرب بعد انقطاع عن العمل لخمس سنوات من العزلة الاختيارية، حيث يلتقي بمرضى نفسيين متهمين بجرائم تشمل القتل، ليلتقي بصديقه وزميل دراسته الدكتور شريف كردي، الذي قام بتأدية دوره خالد الصاوي، المتهم بقتل زوجته، والذي تظهر عليه علائم جنون يشكك فيها الآخرون.
كما تألق الممثل عبد الكريم في دور يحيى الباحث عن الحقيقة باجتهاد ملموس. وإن اختلفت ملامحه عن تلك في الرواية، فعلى الرغم من مظهره الرث، بلحيته غير الحليقة ونظراته الضائعة، بقي ممسكاً بزمام الأمور، حاملاً لطابع جدي. وبغض النظر عن الثمالة الدائمة ومحاولة تغييب الحواس بحبوب الهلوسة، فقد ثابر يحيى في بحثه عن ذلك السر المغيب، في مفارقة واضحة مع تشتت حواسه الملاحظ في الرواية.
تظهر أحداث الفيلم، من منظور الدكتور يحيى، بتأزماته النفسية وهوسه في البحث عن المجهول، إلا أن ذلك لم يصرف أضواء البطولة عن خالد الصاوي، حيث برع في إبراز الالتواءات النفسية للشخصية المثيرة لشريف، برأسه الحليق المزدان بوشوم سوداوية كبيرة، وعينيه اللتين تومضان ببريق جنوني مخيف، وابتسامته التي تنم عن حضور قوي يمزج بين شخصيتي شريف ونائل. ومن جهة أخرى، يبرع المخرج في إرباك المشاهد، والخلط بين الحقيقة والوهم، في محاولة لتجسيد الواقع من منظور يحيى، الذي تغمره الحيرة، بينما شريف، الذي تقمصته روح شيطانية، يحاول إرباك يحيى بمكره وتزييف الواقع، وتقصيه لكل مجريات حياته. في حين يتوهم يحي أن كل ذلك لإصابته بحالة فصام.
يظهر لمتابع الفيلم أن هناك اختصارًا في تفاصيل الرواية وتقنياتها، كغياب المونولوج الداخلي المعبر، والتي تعمق من فهم الشخصيه والتعاطف معها. إذ يظهر يحيى في عدد من المشاهد صلداً يستفز المشاهد لمعرفة ما يدور برأسه، خصوصاً في تلك المشاهد التي يستعيد فيها بحنين علاقة الحب التي تربطه بلبنى، التي قامت بتأدية دورها الممثلة نيللي كريم. وتظهر لبنى في الفيلم كامرأة فاترة رتيبة، شديدة التململ، إذ لم تُظهر انهياراً أو تعاطفاً حيال أخيها المتهم بجريمة قتل. أو حتى تجاه عودتها للتواصل مع حبيب لا تزال الأحاسيس بينهما متقدة.
"الفيل الأزرق" هو عالم غرائبي يخلط بين الأساطير التاريخية والتحليل النفسي، والإبحار في علم الشعوذة والتمائم، المحمل بعبق من قصص مس الجن. عزز ذلك استخدام تقنيات بصرية بديعة، كذلك الفيل الملتمع بلون أزرق مشع، والكلب الأسود الذي يباغت المشاهد بحضوره المفاجئ كوهم مرعب. كما يظهر الخلط بين أحداث الحاضر والماضي جليا. الفيلم باختصار تجربة مميزة، تدل على اهتمام جديد ومغاير للسينما المصرية.

الأكثر قراءة