ثقافة بيئة العمل .. المكونات السرية
على الرغم من الأهمية القصوى لوجود القيادات ذات الرؤية الثاقبة وبناء استراتيجيات العمل الملائمة للوصول إلى أهداف المنشأة، إلا أن أيا من هذه الأهداف التي قد تضعها أي منشأة لن تتحقق بشكل كامل إذا لم يتم دعمها بثقافة مميزة لبيئة العمل فيها.
وعلى هذا الصعيد أتذكر قول كوبي براينت وماجيك جونسون من فريق لوس أنجلوس ليكرز عمالقة كرة السلة السابقين في الولايات المتحدة، عندما تحدثا عن ثقافة عمل الفريق وقالا "عندما نتحدث عن ثقافة بيئة العمل للفريق، لا بد أن نبدأ من رأس الهرم، وذلك من قيادة الفريق التي يجب أن تحدد الملامح العامة لهذه الثقافة، بما في ذلك تحديد نوعية بيئة العمل والنظام الذي يحكمها، فمثل هذه الأمور تبدأ من القمة". ومن هذا المنطلق يتبع فريق الليكرز شأنه في ذلك شأن أي منشأة أخرى، أسلوب العمل من القمة إلى القاع حيث تتولى القيادة الإدارية رسم وبناء ثقافة بيئة العمل للفريق ككل.
وإذا نظرنا على الجانب الآخر إلى مستوى مؤسسات العمل التجارية، سُئل أحد المصممين في المقر الرئيس لشركة فيس بوك حول عدد الساعات التي يقضيها مارك زوكربيرج مؤسس الشركة في العمل، فقال "مارك يجلس بالقرب مني في العمل، وعليه ألاحظ أنه في أغلب الأحيان يكون على مكتبه قبل وصولي للعمل ويستمر في عمله إلى وقت متأخر في المساء، وأستطيع أن أقول تقريباً إن مارك يمضي نحوا من تسع إلى عشر ساعات يومياً، ولمدة خمسة أيام أسبوعياً في العمل. وفي بعض الأحيان عندما يكون هناك مشروع معين يستدعي العمل خلال فترة الإجازة الأسبوعية، كثيراً ما نجد مارك يحضر لمساندة فريق العمل في المشروع ومراجعة سير العمل فيه". ويستمر هذا الموظف مشيراً إلى أن عمل مارك كرئيس تنفيذي للشركة يستوجب القيام ببعض رحلات العمل خارج مقر العمل، إلا أنه في الغالب يفضل أن تكون كافة اجتماعاته مع الجهات الخارجة في المقر الرئيس للشركة وليس العكس. ويجب علينا أن نتوقف عند بعض النقاط التي ذكرها هذا الموظف، والتي يمكن أن ترسم لنا بعض الملامح العامة لثقافة بيئة العمل في شركة فيس بوك. بداية يذكر لنا هذا المصمم أن مارك يجلس بالقرب منه في العملن، مما يشير إلى أن مكتب مارك ليس إلا أي من المكاتب العادية التي يستخدمها الموظفون الآخرون في الشركة وليس لديه أي ميزات كبيرة عنه، وهو الذي يعمل في مهنة مصمم في الشركة. وفي المقابل، نجد أن ساعات العمل التي يقضيها مارك يومياً في المكتب تحدد الملامح العامة لثقافة الحضور والانصراف في الشركة، ويسهم ذلك في رسم النمط العام الذي يتبعه العاملون كافة في الشركة. وكذلك نجد أن مارك يأخذ العمل في الشركة على محمل الجد وليس فقط الحضور إلى العمل كرجل أعمال، وهذا يسهم أيضا في بناء ثقافة العمل الجادة في الشركة بشكل واضح من خلال المشاركة الفاعلة لحميع الموظفين في الشركة في العمل بثقافة واحدة تسهم في تحقيق أهدافها وتطلعاتها.
وهكذا نلاحظ من المثالين الواردين أعلاه أنه مهما اختلف مجال العمل من فريق رياضي إلى شركة متخصصة في تقنيات التواصل الاجتماعي، يبقى دور القيادة الدور المحوري المهم في رسم الملامح العامة لبيئة العمل في المنشأة.
ومن هذا المنطلق، يتبين لنا أن زمن القيادة الإدارية التي تتسم بالحزم والصرامة في منشآت الأعمال، المبنية على مبدأ القيادة والسيطرة، قد بدأ في الزوال، غير أن المشكلة تكمن في عديد من القيادات الحالية في كثير من المنشآت التي ما زالت تتبنى هذا الأسلوب القيادي، وهو ما يسهم في فشل عديد من المنشآت في الوصول إلى تحقيق كل أهدافها ــ أو في أسوأ الحالات التي رأينا فيها السقوط الكامل وتوقف أعمالها في ظل منافسة اقتصادية عالية. وفي المقابل، إذا ما نظرنا إلى المنشآت الناجحة اليوم كما هو الحال في وضع كثير من الشركات الناشئة في مجال تقنية المعلومات، نجد أن كثيرا منها يدرك منذ نشأتها الأهمية القصوى لثقافة بيئة العمل، حيث تسهم، كما هو حال مساعد كابتن الطائرة، في توجيه الطائرة نحو وجهتها التالية. وقد قادني هذا الأمر للتساؤل عما لو كان بناء مثل هذه الثقافة في الشركات التقنية الناشئة ينبع من كون معظم مؤسسيها ورؤسائها التنفيذيين هم من جيل الشباب حديثي التخرج. ويتضح لنا أن هذا الجيل الواعد من الرؤساء التنفيذيين الشباب لديه تفهم أكثر لمبدأ بناء ثقافة بيئة العمل التي تساعد على تحقيق الفوز للمنشأة كجزء من المهارات الرئيسية اللازمة لتحقيق هذا النجاح.
وتشكل ثقافة بيئة العمل المزيج المترابط بين القيم المؤسسية والفكر الإداري والتصرفات الفردية؛ التي تكون في مجملها بيئة عمل محفزة على النجاح وتسهم في جذب الكوادر البشرية المؤهلة ليس فقط للعمل في المنشأة، بل تقديم أفضل ما لديها، وذلك انطلاقاً من شعور هذه المواهب البشرية بالانتماء لهذا الجو العام من العمل التعاوني المشترك بين القيادة ومنسوبي المنشأة في كل المستويات الإدارية وعلى جميع الأصعدة.
وتعتبر ثقافة بيئة العمل من الأمور التي تختص بها كل منشأة بشكل فريد ولا يمكن بشكل عام نقلها بشكل كامل من منشأة إلى أخرى كما هو الحال في عديد من الممارسات الإدارية، وذلك لارتباطها بالعنصر البشري، وهي بذلك تشكل الشخصية الخاصة بالمنشأة التي يتم بناؤها من خلال القيم والتاريخ المشترك للمنشأة. ومن هذا المنطلق، يمكن بشكل واضح تمييز المنشآت التي تتميز بثقافة بيئة عمل ناجحة عن غيرها من المنشآت، من خلال قدراتها على العمل وفقاً لخططها الاستراتيجية نحو تحقيق أهدافها، كما يشعر الموظفون في مثل هذه المنشآت بقدر عال من المسؤولية الشخصية نحو تحقيق أهداف المنشأة ككل.
ويسهم التغيير المستمر في البيئة التنافسية ومجتمع الأعمال المحيط بالمنشأة على تحفيز التغيرات في ثقافة بيئة العمل من خلال دفع المنشآت نحو الاتجاه إلى تنبي ممارسات تسهم في بناء الإطار العام لثقافة بيئة العمل الناجحة. وعليه يتجه كثير من المنشآت نحو تحقيق هذا البناء انطلاقاً من الحاجة لمواكبة مثل هذا التغيير. غير أن غرس ثقافة بيئة العمل الناجحة يتطلب كثيرا من الجهد للعمل نحو تغيير الفكر الإداري في المنشأة، إضافة إلى العمل على تغيير السلوكيات الفردية المعتادة، ما تتطلب توجه قيادة المنشأة نحو النظر إلى ثقافة بيئة العمل كأحد المكونات الحرجة لنجاح المنشأة التي يجب وضعها في أولوية اهتماماتهم.