تراثنا العاطفي وتغذية الجفاف المعاصر
تحدثنا عن بعض معاني الحب في تراثنا العربي وأنه قادر على تغذية الجفاف المعاصر الذي بات بحاجة إلى تغذية دون الحاجة إلى استيراد معان من ثقافات أخرى قد يكون فيها تلوث ومخالفات شرعية للنظام العام ونكمل بعض القصص التي كتبها التاريخ العربي:
4 - جميل بثينة
حدثت قصة جميل بثينة في العصر الأموي، أحب جميل بن معمر العذري بثينة بنت الحباب وبدأت القصة، رأى بثينة وهو يرعى إبل أهله، وجاءت بثينة بإبل لها لترد بها الماء، فنفرت إبل جميل، فسبها، ولم تسكت بثينة وإنما ردت عليه، وبدلا من أن يغضب أعجب بها، واستملح سبابها فأحبها وأحبته، وبدأت السطور الأولى في قصة هذا الحب، فراحا يتواعدان سرا.
لقد اشتد هيام جميل ببثينة، واشتد هيامها به، وبدلاً من أن يقبل قومها يد جميل التي امتدت تطلب القرب منهم في ابنتهم رفضوها، ولكي يزيدوا النار اشتعالاً سارعوا بتزويج ابنتهم من فتى منهم، هو نبيه بن الأسود العذري.
ولم يغير هذا الزواج من الحب الجارف الذي كان يملأ على العاشقين قلبيهما، فقد كان جميل يجد السبل إلى لقائها سراً في غفلة من الزوج. وكان الزوج يعلم باستمرار علاقة بثينة بجميل ولقاءاتهما السرية، فيلجأ إلى أهلها ويشكوها لهم، ويشكو أهلها إلى أهل جميل، فنذروا قتله، ففر جميل إلى اليمن حيث أخواله، وظل مقيما بها زمنا، ثم عاد إلى وطنه ليجد قوم بثينة قد رحلوا إلى الشام، فرحل وراءهم.
وأخذ النور يخبو، ثم ينطفئ السراج، وتودع بثينة الحياة بعيدة عن جميل الذي وهبته حبها وإخلاصها، وودع العاشق حياته على أمل أن يجمع الله بينه وبين صاحبته بعد الموت.
5 - كثير عزة
تأتي قصة كثير عزة لتنضم إلى غيرها من قصص العشاق من الشعراء الذين آلمهم عشقهم فجعلهم يبدعون أروع القصائد في وصف الحبيب والشوق إليه، وكان كثير هو أحد أبطال العشق الذين نسبت أسماؤهم إلى أسماء معشوقاتهم، وكثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن مليح من خزاعة، هو شاعر متيم من شعراء العصر الأموي، من أهل المدينة، توفي والده وهو لا يزال صغيراً فكفله عمه، وأوكل له مهمة رعاية قطيع من الإبل.
أما الحبيبة فهي عزة بنت حُميل بن حفص من بني حاجب بن غفار كنانية النسب، كناها كثير في شعره بأم عمرو ويسميها تارة الضميريّة وابنة الضمري نسبة إلى بني ضمرة.
ويقال عن قصة حبه مع عزة أنه في إحدى المرات التي كان يرعى فيها كثير إبله وغنمه وجد بعض النسوة من بني ضمرة، فسألهن عن أقرب ماء يورد إليه غنمه، فقامت إحدى الفتيات بإرشاده إلى مكان الماء وكانت هذه الفتاة التي دلته على مكان الماء هي عزة والتي اشتعل حبها في قلبه منذ هذه اللحظة وانطلق ينشد بها الشعر، وكتب بها أجمل ما قال من غزل.
عرفت عزة بجمالها وفصاحتها فهام بها كثير عشقاً ونظم الأشعار في حبه لها مما أغضب أهلها وسارعوا بتزويجها من آخر ورحلت مع زوجها إلى مصر، فانفطر قلب كثير وانطلقت مشاعره ملتهبة متأججة ولم يجد سوى الشعر ليفرغ به آلامه وأحزانه في فراق الحبيب.
سافر كثير إلى مصر حيث دار عزة بعد زواجها وفيها صديقه عبد العزيز بن مروان الذي وجد عنده المكانة ويسر العيش، وجاءت وفاته في الحجاز هو وعكرمة مولى ابن عباس في نفس اليوم فقيل: مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس.
إن الاهتمام بالمعاني العاطفية بات مهما لجميع مكونات المجتمع فالرحمة والحب والوفاء هي صمام أمان بعد الله لكثير من المنزلقات التي باتت تساهم في انتشار المجتمع وتفكك الأسر وانتشار الأمراض النفسية ووجود الطبقة الاجتماعية وسحق الطبقة الكادحة تحت وطأة نار المادة والاحتياج الاجتماعي.
إن الاهتمام بالحب هو جزء من أخلاق المجتمع النبوي وهذا ما جعل عمرو بن العاص يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم، في بعثه على جيش ذات
السلاسل يقول عمرو أتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: (عائشة)، فقلت: من الرجال؟ قال:
أبوها، قلت: ثم من؟ قال: (ثم عمر بن الخطاب) فعد رجالاً.
فكون أحد أفراد المجتمع يسأل - رضي الله عنه - سؤالا عاطفيا أمام الناس عن الحب فهذا دليل على أنه أمر مألوف ومعنى منتشر فليس الحب في داخل جدران الغرف بعيداً عن الأنظار وكأنه جريمة تمارس بل هو معنى نبيل يقال على المنبر وأمام الناس بتحديد اسم المحب ودرجة الحب.
والتصريح بالحب معنى نبيل وشريف وقدوتنا في ذلك رسول الله، فعن مُعَاذِ بن جَبَلٍ أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ بيده يَوْماً ثُمَّ قال: (يا مُعَاذُ إني لأُحِبُّكَ فقال له مُعَاذٌ بأبي أنت وأمي يا رَسُولَ اللَّهِ وأنا أُحِبُّكَ قال أُوصِيكَ يا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ في دُبُرِ كل صَلاَةٍ أن تَقُولَ اللهم أَعِنِّى على ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ).
فالتصريح بالحب والأخذ باليد كل هذه تعبيرات ومعان تؤكد رسوخ ونضوج العهد النبوي في العاطفة.
إن المجتمعات المتمدنة يزيد فيها الرصيد العاطفي والتصريح بالحب بينما يقل هذا الرصيد في المجتمعات الأقل تمدناً حتى إن كانت متطورة في العمران والبناء فالعمران إنما وضع لخدمة الإنسان ولا إنسان كامل بلا عاطفة وحب.
نسأل الله للجميع التوفيق