العراق .. الطلاق الطائفي يفتت البلاد
الأول سني، والثاني شيعي، والآخر مسيحي. ثلاثتهم تجمعوا معاً لسنوات طويلة في متجر صغير لبيع اللوازم الزراعية في سوق السنك المركزي الضخم في بغداد.
خارج هذا المتاهة المكونة من ألف محل، يمتلئ العراق بأقوال عن احتمال انقسام البلاد يمكن إلى دولة سنية وأخرى شيعية وثالثة كردية بهدف الوصول إلى نهاية لسفك الدماء والعنف الطائفي. لكن على الرغم من الهجمات المناوئة للحكومة في قلب الأراضي السنية والحملة الجديدة للأكراد للحصول على الاستقلال، إلا أن كثيرين داخل هذا البازار لا يؤيدون مثل هذه الفكرة.
يقول ماجد ميخائيل، المسيحي البالغ من العمر 55 عاماً "لو تناولت هذا السؤال من منظور هذه السوق، فسينجح العراق". وأحمد شاكر الشيعي البالغ من العمر 35 عاماً يوافق على ذلك، ويقول "العراق قلب نابض واحد". لكن أحمد صالح (44 عاماً)، غير متأكد كثيراً من ذلك، ويقول "في مثل هذه الأحوال، ربما يكون من الأفضل الحصول على وطن للسنة. المشكلة أن أغلب الناس من الجهلة، وبين هؤلاء يمكنك أن تجد العنف الطائفي".
والسنك هو الاسم المشتق من كلمة عثمانية وتعني الذباب الذي اجتاح مرة هذه المنطقة، وهو سوق الجملة المركزي في العراق، ويختص بالبضائع الصناعية. ويأتي إليه التجار من أنحاء البلاد ليساوموا المستوردين قبل أن يحملوا مشترياتهم على شاحنات ليرسلوها إلى محالهم عبر الـ 18 محافظة التي يتألف منها العراق.
يقول يحيى المندلاوي، موزع قطع سيارات نيسان البالغ من العمر 60 عاماً "لا يوجد مكان هنا للطائفية". ويحيى من المحافظة المختلطة ديالا، وهو يعيش في حي متنوع دينياً في العاصمة بغداد، وكل من ابنتيه متزوجة حديثاً من طائفة مختلفة، وهو يقول تعايش أفراد شعبنا معاً لفترة طويلة من الزمن".
العراقيون وحدهم من يعرفون كيف تقاربت حياة مجتمعات البلاد ونُسجت معاً بحميمية ووفاق، وهم من يعرفون كم كانت علاقاتهم متشابكة ومعقدة داخل عشائرهم وعائلاتهم، وكم سيشكل لهم الطلاق الطائفي من عذاب. ويتألف كثير من العشائر من فروع شيعية وسنية، وما زال الزواج بين الأقارب أمراً شائعاً فيها.
ويوضح الشيخ عبد الله الأنباري، وهو زعيم عشيرة شيعية كبيرة كيف تشابكت المجموعات المختلفة وتآلفت. ويقول: جاء اسم قبيلتي من اسم هذه المنطقة، وهو يشير إلى محافظة الأنبار السنية التي يقع اليوم أغلبها تحت سيطرة المجموعات السنية المقاتلة. ومن بين هذه المجموعات دولة الإسلام في بلاد العراق والشام، المعروفة باسم داعش، التي جعلت رسالتها الجوهرية هي إعادة رسم الحدود العراقية التي أوجدتها اتفاقية سايكس بيكو في عام 1916.
#2#
وتشارك العراقيون معاً المعاناة من عذابات الحرب العراقية الإيرانية، والعقوبات الغربية التي دفعت بالكثيرين ناحية الفقر في تسعينيات القرن الماضي، ورعب اجتياح بلادهم الذي قادته الولايات المتحدة، وبعد ذلك من التشنجات الدموية للحرب الأهلية الناشبة في البلاد.
إن حدوث فصل من أي نوع، سواء كان إعادة رسم لخريطة البلاد بطريقة رسمية كما يطلب الأكراد، أو استحداث وطن مستقل للسنة كما يقترح بعض السنة، سيكون مؤلماً لدرجة أن البعض يرفض ذلك فوراً. تقول صابين عواد (26 عاماً) التي تعمل في منطقة المنصور في بغداد "أمي سنية ووالدي شيعي وأخي متزوج من مسيحية، جميعنا إخوة وأخوات، ولذلك لا يمكننا أن ننفصل".
لكن يتخيل كثيرون التقسيم وانتباههم يتركز عميقاً على أزمة العراق، بلد الحروب المستمرة والأسلحة المنتشرة في كل مكان، وأرض الفساد والخدمات العامة المنهارة.
يقول ثامر تميمي، أحد مستشاري رئيس الوزراء، نوري المالكي، وهو يتنهد متحسراً على العراق: "المشكلة ليست فقط في الأمن أو السياسة في هذه اللحظة، فنصف البلاد بالفعل خارج سيطرة الحكومة، لقد فات الأوان بالنسبة لعراق واحد".
الانهيار البطيء
استمر العراق في التفكك طيلة عقود، على الرغم من كل أناشيد الوحدة الوطنية فيه. قضى الأكراد معظم القرن الماضي في ثورة مسلحة ضد الحكومات العربية المتعاقبة في بغداد قبل أن ينالوا استقلالهم في عام 1991. وخارج بغداد العاصمة، ذات الطابع العالمي نسبياً، بقيت قطاعات واسعة من السكان الشيعة في البلاد مستمرة في مواجهات مسلحة مع الحكومة منذ أن تمكن صدام حسين من تعزيز سلطته في عام 1979 وحتى الإطاحة به من قِبل الولايات المتحدة في عام 2003.
وخلال أسابيع من الاجتياح الأمريكي، اشتعلت ثورة سنية ضد الأمريكيين أعقبها تمرد للأغلبية الشيعية التي تسيطر على البلاد الآن. يقول زياد عجيل، المحلل السياسي "كانت الطائفية هنا منذ فترة طويلة، وهي ليست شيئاً جديداً الآن، فالأكراد رفضوا حكم العرب، والشيعة رفضوا حكم السنة. والآن لا يريد السنة أن يحكمهم الشيعة. وتاريخ العراق يؤكد أنه لا يمكنك الحصول على حقوقك دون استخدام السلاح. وهذه هي مشكلة العراق".
وسورية المجاورة تتحطم وتتفكك أيضاً بوجود الخليط العرقي المكون من الأكراد والسنة والشيعة، المماثل لما هو موجود في العراق. هناك إحساس بأن العراق متناقض ديموغرافياً بوجود سياسة الرابح على حساب الخاسر التي سادت البلاد والمنطقة لفترة طويلة. كل مجموعة من المجموعات الرئيسية في العراق ترى نفسها ضحية مظلومة تاريخياً وفي الوقت نفسه تبرئ نفسها من خطاياها.
يقول شاب سني يبلغ من العمر 23 عاماً من ضاحية الدحيمية "فعل صدام الشيء نفسه بالشيعة، كما يفعل المالكي الآن للسنة". ومنذ أشهر عديدة، بدأ كثير من السنة التحرك للحصول على منطقة فيدرالية بسبب الغضب من المعاملة التي يلاقونها على أيدي الحكومة الشيعية، وهو تحرك يقوده أسامة النجيفي، رئيس البرلمان الذي خرج منه وهو يرأس حالياً واحدة من الكتل السياسية الرئيسية.
ويتحدث كثيرون هذه الأيام في المقاهي والتلفزيون والصحف عن مستقبل يكون فيه للسنة منطقتهم التي يسكنون فيها، تماماً كما هو حال أكراد العراق. فالأكراد يمتلكون علماً خاصاً بهم، ولديهم قوات مسلحة خاصة بهم، ويديرون مدارسهم مع تدخل قليل جداً من حكومة بغداد.
يقول كوباد طالباني، نائب رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان "المكون الرئيسي المفقود في كل هذا هو الولاء للعراق، وهذا هو الشيء الذي يقلل من التفاؤل حول مستقبل العراق. نحن لا نرى أي ولاء للعراق. نحن نرى ولاءات لطوائف مختلفة، ولهويات عرقية وأيديولوجيات دينية".
طلاق فوضوي
لا يوجد في العراق ما هو أسهل من رسم الخطوط على خريطته. فكثير من محافظاته مكون من خليط من السنة والشيعة، مثل محافظة ديالا الواقعة إلى الشمال من بغداد، والمجاورة لكل من كردستان والحدود الإيرانية، التي تضم شيعة وأكرادا إضافة إلى الأغلبية السنية فيها.
وعلى الرغم من إمكانية دمج الأطراف الشرقية ذات الأغلبية الكردية حول قضاء خانقين في منطقة كردستان، إلا أن النصف الغربي من هذه المنطقة مبقع ببلدات سنية وشيعية بحيث تجعل من رسم خط فاصل بينها أمراً مستحيلاً.
#3#
ويوجد داخل محافظتين شيعيتين على الأقل - هما بابل الواقعة مباشرة إلى الجنوب من بغداد والبصرة الواقعة في عمق الجنوب - عدة مقاطعات سنية مهمة. كما توجد أيضاً مناطق شيعية في محافظات أخرى تضم جيوبا شيعية عربية وتركمانية منعزلة.
ويعيش العرب بسلام داخل منطقة حكومة إقليم كردستان المستقلة، ويمكن أن يعيش السنة نظرياً بسلام في مناطق شيعية، لكن الشكوك ترتفع إلى مستويات عالية.
ويقول سيطار جليل، النجار في مدينة النجف الشيعية، البالغ من العمر 42 عاماً "إذا ذهب رجل شيعي إلى منطقة سنية سيذبحونه، لكن لو جاء سني إلى منطقتنا فسنرحب به".
ويمكن أن تكون بغداد الجزء الأكثر تعقيداً في اللغز. فهي على الرغم من أنها كانت مقسمة في الماضي بالتساوي بين السنة والشيعة، إلا أنها فقدت نحو 60 في المائة من سكانها السنة في العقد الماضي. لكن كثيرا من حاراتها مختلطا، وقليلون من يعتقدون أن الشيعة سيتركون أي جزء من المدينة يخرج من أيديهم، وهي أجزاء مرغوبة أيضاً من السنة.
واعتبر كثير من العراقيين منطقة الرصافة الواقعة إلى الشرق من نهر دجلة معقلاً للشيعة. والنصف الغربي المسمى الكرخ يسوده السنة. لكن يوجد في الكرخ ضريح الإمام الكاظم، وهو من أهم الأماكن المقدسة لدى الشيعة، بينما تقع أهم المساجد السنية في البلاد في منطقة الدحيمية، على الجانب الشيعي من النهر.
ويقول مازن محمد، وهو فنان قضى مع مثقفين آخرين ليالي كاملة وهو يناضل لأجل رسم خريطة مستقبل العراق "يمكن اللجوء إلى نقل ضريح الإمام الكاظم من الغرب إلى الشرق وبذلك تُحل المشكلة، لكن هذا حديث حزين جداً".
وأي كيان سني في العراق سيتحول بسرعة إلى اقتتال داخلي، خاصة بين قبيلة الدليم الكبيرة الواقعة في الأنبار، وقبيلة شمّر الموجودة في نينوى. يقول عدنان حسين، رئيس تحرير جريدة "المدى"، "الموجودون في الأنبار سيرغبون في أن تكون الرمادي عاصمة لهم، أما المقيمون في نينوى فسيرغبون في أن تكون الموصل هي العاصمة. هناك كثير من العداوات بين القبائل".
والاقتتال بدأ بالفعل بين الفصائل السنية. والقليل يؤمن بإمكانية إجراء تسوية بين الإسلاميين المتطرفين الساعين لتأسيس نسخة مثالية من الخلافة، وأعضاء حزب البعث السابقين من أتباع صدام حسين الذين يسرفون في احتساء الخمور، الساعين للإطاحة بالحكم الاستبدادي الشيعي.
وفصل محافظات العراق السنية الثلاث قد لا يكون مجديا من الناحية الاقتصادية. فأغلب محافظات الأنبار، وصلاح الدين، ونينوى ذات كثافة سكانية قليلة وأراضيها مغلقة (لا منافذ لها) وخالية من الموارد الطبيعية. وبحسب وين وايت، الخبير السابق في شؤون العراق في وزارة الخارجية الأمريكية، وهو يعمل الآن في مؤسسة الشرق الأوسط في واشنطن "منطقة السنة ستكون الأكثر فقراً في العراق. الزراعة فيها معدومة، ولا يوجد فيها نفط. وهي يمكن أن تصبح دولة شرق أوسطية جديدة فقيرة جداً". وأضاف: "حشر أنفسهم في أراض مغلقة جافة وجرداء في زاوية تفتقر إلى النفط لن يكون أمرا مرغوبا".
وحتى لو اكتشف النفط فيها، فلن يكون من الممكن ازدهار دويلة سنية مغلقة دون شراكات استراتيجية قوية مع جيرانها. وكما أظهر استقلال جنوب السودان، فإن امتلاك دولة غنية بالنفط مع قليل من غيره من الموارد سيكون بالكاد وصفة لتحقيق النجاح. يقول سيجبرين دي يونج، الخبير في مركز الدراسات الاستراتيجية في لاهاي في هولندا "إذا رغبتَ في أن تكون لك قدرة على الاستمرار اقتصادياً، يجب أن يكون لديك نوع من الاتفاقيات مع جيرانك لضمان استقرارك. وتصدير أي شيء يعتمد على الحصول على منافذ لموانئ وشبكات من خطوط نقل النفط والبنية التحتية".
ومن المرجح أيضاً أن يقاوم الشيعة أي كيان سني يسيطر على الأجزاء العليا من نهري دجلة والفرات، موردي المياه الرئيسيين للزراعة في الجنوب.
الفصل المنظم
سيكون تقسيم العراق في الوقت الحاضر، سواء كان على شكل مناطق فيدرالية أو دويلات منفصلة، عملية كارثية. يجب أولاً تهدئة الخواطر ويجب عزل "داعش" على الأقل، إن لم يكن بالإمكان هزيمتها بالكامل.
ربما يلزم ذلك حكومة جديدة غير حكومة المالكي الانقسامية. السياسيون وصناع الرأي يطوفون حول عدة أفكار لإعادة الحياة إلى العراق. فالمادة 140 من الدستور تتيح للمحافظات الاندماج في مناطق واحدة، بحيث تكون قادرة على إدارة شؤونها الخاصة بنفسها. هذا هو ما تمت مناقشته بخصوص نينوى التي تشمل محافظات الموصل وصلاح الدين والأنبار.
وسيكون الأمن القومي والسياسة الخارجية وعائدات النفط والسيطرة على الحدود ضمن إطار الحكومة المركزية.
يقول حسين "على الرغم من أن الوقت لم يحن بعد للبدء في إعادة رسم حدود الدولة العراقية، إلا أن هناك خيارا متاحاً حالياً، وهو الفيدرالية أو الكونفدرالية الحقيقية. نحن نتوقع كثيرا من الأوقات العصيبة في المرحلة المقبلة وكثيرا من سفك الدماء، لكن ربما سنتمكن من تجنب الأسوأ إذا كان هناك نوع من الفيدرالية الإقليمية. ربما حتى يقبل الأكراد بكونفيدرالية أو حتى فيدرالية".
نبيل يونس، المختص بالعلوم السياسية ومستشار النجيفي، يقترح تقسيم العراق العربي إلى ثلاث مناطق، واحدة للسنة، وثانية للشيعة، وأخرى مختلطة في المنطقة الوسطى تشتمل على ديالا وبغداد وجميع المناطق المختلطة بكثافة من حولها.
وإذا استثنينا الأكراد، تشير استطلاعات الرأي إلى أن أهل العراق لا يريدون تقسيم بلدهم. فقد أخفق طلب قدِّم في 2009 من أجل عقد استفتاء عام حول تحويل أجزاء من الجنوب إلى منطقة مستقلة، في اجتذاب عدد كاف من الموقعين. وصورة العراق المثلى على أنه مجموعة متكاملة من الديانات والقبائل واللغات المختلفة، وهي فكرة تجد تجسيداً لها في سوق السنك، لا تزال تحمل وزناً كبيراً.
لكن في الأسابيع الأخيرة كان هناك زخم من أجل إعادة تشكيل جذرية، على اعتبار أنها أقل الحلول سوءاً. وعلى الرغم من أفضل النوايا الحسنة للسنة والشيعة، ربما لم يعد من الممكن لهما أن يعيشا معاً. يقول يونس "إذا لم تستطع الحكومة أن تحمي السنة باعتبارهم من المواطنين، أو لا تحمينا كمواطنين، فإننا سنتصرف انطلاقاً من مصلحتنا".
ذكريات الحرب الأهلية الطائفية التي كانت تخلف في 2006 و2007 نحو 100 جثة يوميا في مستشفيات العاصمة، تظل عالقة تحت السطح مباشرة. ويقول منذر عبد الغني، وهو مدرس متقاعد في منطقة السعدية المختلطة طائفياً، "بدأت الميليشيات تقتل الناس. لقد قتلوا ابني".
في حي الغزالية، الذي يتألف أغلبه من السنة، يقوم أفراد الميليشيات الشيعية وأعضاء قوات "مكافحة الإرهاب" التابعة للمالكي بجولات ليلية في الشوارع، حيث يهددون الأهالي بأناشيد تحتفل باستشهاد الحسين بن علي.
ويقول رائد كمال، وهو محام وعضو في قبيلة الدليمي ذات الأغلبية السنية في الغزالية "نحن لا نرفض أن نعيش تحت حكم الشيعة. إنهم إخوان لنا. لدي علاقات عائلية مع النصيرية. هنا نحن لا نتحدث عن "داعش". نحن نتحدث فقط عن كثير من المظالم التي أدت إلى انتفاضة السنة. كنا من قبل نرفض أن يكون الحل هو إنشاء منطقة سنة، لكن بعد المظالم التي أحاقت بنا، ربما يكون هذا هو أفضل حل".