حركة عدم الانحياز.. التقييم وإعادة الهيكلة

لم تشهد حركة عدم الانحياز حتى في أوج "مجدها"، نقلات نوعية مؤثرة في الساحة الدولية. كانت أقرب إلى الطاقة الصوتية منها إلى الطاقة الفعلية. أثرت في الساحة الإعلامية، أكثر مما أثرت في ميدان صنع القرار العالمي. شكلت (بلا شك) فارقاً ما، غير أنها بقيت حركة تُدين السلوكيات الدولية الظالمة، دون تأثير فعلي في الجهة المدانة، إلى أن مرت الحركة بمرحلة "لا حراك"، إلا في مؤتمراتها التي تعقد كل ثلاث سنوات. والذي أسهم في ذلك، عدة عوامل، أهمها تحولات تاريخية جذرية في المشهد السياسي العالمي بانهيار الاتحاد السوفياتي، وتصاعد حدة عدم التجانس بين مجموعة من أعضائها. يضاف إلى ذلك، انحياز بعض الأعضاء بالفعل إلى جهات يفترض أنها خارج نطاق أي نوع من الاستقطاب، لأي دولة عضو في "عدم الانحياز".
ودعوة المملكة إلى تقييم ومراجعة فاعلية حركة عدم الانحياز في حفظ الأمن العالمي، تطرح في طياتها مستقبل الحركة نفسها. كما أنها تأتي في وقت تظهر فيه مؤشرات حقيقية لـ "عالم القطبين"، أو ما شابه ذلك، على الأقل في الوقت الراهن. الارتباك السياسي الذي تسببت فيه الإدارة الأمريكية الحالية، أعاد صيغا جديدة، كان يعتقد أنها انتهت إلى الأبد. وهذا الارتباك، يأتي في الواقع من الضعف الفاضح للسياسة الخارجية الأمريكية، الذي دفع حلفاء الولايات المتحدة للحديث عنه جهراً، وفي بعض الأحيان بعيدا حتى عن الأعراف الدبلوماسية المعهودة. بل وصل الأمر إلى أبعد من ذلك، إلى توجيه انتقادات مبطنة لهذه الإدارة، حتى من قبل بعض المسؤولين فيها! إلى جانب الهجوم الذي لا يتوقف من ناحية التيار الجمهوري الأمريكي.
في ظل هذا المشهد السياسي الدرامي، أصبح مناسبا (الآن أكثر من أي وقت مضى) ضرورة مراجعة وتقييم فاعلية حركة عدم الانحياز. والأهم من هذا، إعادة هيكلة هذه الحركة، إذا ما أُريد لها بالفعل أن تعود إلى الحياة مجددا، وطرح معايير تتماشى مع الاستحقاقات والمستجدات على الساحة الدولية. ففي حركة عدم الانحياز، ما يكفي من حكومات مارقة مستعدة للتخريب الدائم، والتعطيل وإعاقة أي توجه إيجابي يخصها ويخص أعضاءها. وحتى في مرحلة "ازدهارها" لم تكن حكومات الدول المنضوية تحت لوائها متجانسة بما يكفي لحماية مبادئ ومعايير الحركة. وفي العقد الماضي (مثلا) سيطرة سفاح كمعمر القذافي على الحركة. وهناك مسؤولون خارجون عن القانون الدولي، ممثلون فيها. إضافة إلى ذلك، لا توجد رؤية واضحة للحركة حيال كثير من القضايا المطروحة، بل إن هناك قضايا تجاوزتها بصورة يصعب اللحاق بها.
وكي تصل حركة عدم الانحياز إلى مستوى تتمكن استنادا إليه من المشاركة في حفظ الأمن العالمي، عليها تجديد نفسها بصورة شاملة. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تواصل الحراك وفق المعايير التي قامت عليها، ولم تتعرض لأي جهد تطويري على مدى العقود الماضية. ولهذا السبب تحولت إلى ميدان استعراضي بروتوكولي، وفي بعض الأحيان شخصي وظف لأسباب خاصة جداً، لا دخل لها بالسياسة الدولية، والأمن العالمي. وإذا لم تتمكن الحركة من تحقيق تحولات جذرية على المدى المنظور، ستظل كما هي الآن.. حركة تاريخية تعيش ماضيا ولى، لا مستقبلا آتيا. فضلا عن أنها حركة أصبحت حاضنا حتى للخلافات بين أعضائها.
إن لم تعد حركة عدم الانحياز تشكيل نفسها، وفق مفاهيم المؤسسات وعوامل التطورات والاستحقاقات، ستظل كيانا من الماضي، في حين أن الحراك العالمي يمضي إلى المستقبل، بصرف النظر عن إيجابياته وسلبياته، وأهداف أطرافه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي