من التعليم .. إلى التعلم وبناء المعرفة

الهدف الأساس من التعليم هو الاستفادة من ابتكارات ودراسات وبحوث وخبرات وتجارب الآخرين، من أجل اختصار المدة المطلوبة لفهم الأشياء والبدء من حيث انتهوا، بدلا من إضاعة الوقت في إعادة اختراع العجلة. لكن التعليم وحده لا يصنع التنمية ولا يقود إلى الانعتاق من التخلف "والانطلاق إلى العالم الأول" ما لم يتحول إلى سلوك إيجابي للأفراد وعامل لإحداث تغيير جماعي وحضاري، وتوظيفه في التفكير الإبداعي وزيادة الإنتاجية. يعتقد البعض خطأ أنه يمكن القفز على مراحل التنمية والبدء من أعلى السلم فقط من خلال التعليم، وأنه يكفي مضاعفة عدد المدارس والمعاهد والكليات والجامعات وابتعاث الطلاب والطالبات للدراسة في الجامعات العالمية كوسيلة لتحقيق التنمية. وهذا تفكير قاصر عن إدراك الحقيقة كاملة والنظر للواقع بشمولية، والتفكير بتأمل عميق وموضوعي. معادلة التنمية ليست فقط "التعليم يقود إلى التنمية"، فبين التعليم وتحقيق تطوير اجتماعي واقتصادي وصناعي وسياسي.. بون شاسع يتطلب إيجاد نظام متكامل تتداخل وتتفاعل في إطاره جميع القطاعات والمؤسسات ومكونات المجتمع. لكن أليس لدينا نظام يدير المجتمع؟! بلى، ولكن السؤال ما كفاءته وفاعليته ومستوى إنجازه؟ إن التفاضل بين المجتمعات ليس بتميز الأفراد؛ بل بالنظام الاجتماعي الذي يوظف فكرهم وجهدهم في الإنتاجية وتطوير الأشياء على نحو أفضل. مشكلتنا في العالم العربي أن المصلحة الخاصة لا تتم داخل إطار المصلحة العامة فكل يعمل على شاكلته وبأنانية مقيتة وقاتلة للجهد الجماعي وربما اكتشفنا - إن لم يكن متأخرا - أن هناك فرقا بين كفاءة الأفراد وإنتاجية المجتمع، وأن الكفاءة وحدها لا تصنع تنمية ولا نموا اقتصاديا يزيد من فرص الأفراد في تطوير أنفسهم ومن حولهم. المفهوم الجوهري هنا هو التنسيق وهو يعني صناعة التكامل والتفاعل بتوافق وتناغم دقيق بين جميع الأطراف في المجتمع. فأي فعل في المجتمع سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات يدفع بعضه بعضا بتأثير تتابعي تراكمي يصب في اتجاه تحقيق رؤية مشتركة وعمل تشاركي ومنفعة جماعية. وهذا يقتضي بالضرورة صياغة إستراتيجية وطنية بعيدة المدى تكون بمثابة خارطة طريق إرشادية تجعل الجميع على بينة من الأمر وبوعي وإدراك تام لــ"أين نحن الآن؟ وأين نرغب في أن نكون؟ وكيف سنصل إلى هناك؟ وما يجب علينا فعله؟ وما الأدوار والمسؤوليات المنوطة بنا كأفراد ومؤسسات؟".
التفكير الجماعي والرؤية المشتركة أساس في إيجاد ذلك النظام المتكامل الذي يحرك ويدفع بقاطرة التنمية بسرعة متزايدة وقوة وثبات، والأهم توخي الاتجاه الصحيح! لا يمكن الاعتماد على نجاحات وإنجازات هنا وهناك تمت في الماضي تمنحنا الرضا النفسي في أننا قمنا بما يجب علينا القيام به! ليتلبسنا شعور خادع ومضلل يجعلنا نمكث في منطقة الراحة والاسترخاء والغفلة عن المتغيرات والمستجدات في الساحة الداخلية والأحداث من حولنا دون الاستعداد لمواجهتها والتصدي لها أو احتوائها، وهو أمر جد خطير! وهنا يظهر جليا ضرورة التعلم وبناء مجتمع المعرفة (وليس التعليم فقط) لأنه السبيل الوحيد لتحقيق القوة والمنعة الاجتماعية والسياسية والتميز الاقتصادي والصناعي. وهي الضامن - بعد الله - لقوة وتماسك المجتمع والوقوف في وجه التحديات الكبيرة التي تحيط بنا من كل حدب وصوب. إن المجتمعات كالأفراد تنمو، ولكن لا يعني ذلك بالضرورة أنها تتطور. فهناك فرق بين النمو والتطور، فالنمو لا يتعدى كونه تكاثرا كميا فطريا دون تدخل مخطط للتغيير. على سبيل المثال قد تزيد أعداد المدن ويزيد عدد سكانها، لكن هذا لا يعني بالضرورة حدوث تطور في حياتها! التطور هو تغيير نوعي ثقافي جذري مخطط بوعي وبقصد نقل المجتمع من مستوى تنموي إلى مستوى أعلى تفكيرا وترابطا وإنتاجا. هو بناء للقدرات المحلية وتحريك للموارد وتوظيفها عبر خبرات تراكمية من خلال خوض تجارب وبرامج ومشاريع يتم فيها اكتساب وتوثيق وخزن وتطوير المعرفة.
الحديث هنا عن رأس المال الاجتماعي في مقابل رأس المال الاقتصادي، وتطوير الاقتصاد الوطني يقتضي بالضرورة تطوير رأس المال الاجتماعي، فهو بمثابة ذاكرة المجتمع ووعاء الخبرة والمعرفة الجماعية والثقافة المجتمعية التي توجه سلوك الأفراد وتضبط المجتمع وهو ما يصنع التميز ويحقق الميزة التنافسية. في كل مجتمع تتخلق ثقافة خاصة به نتيجة خبرات تراكمية تجعله يتميز في شكله الاجتماعي والإنتاجي. هذه القيم والمعرفة المجتمعية هي التي تمنح المجتمع هويته وتحدد ما يستطيعه وما لا يستطيعه، وبالتالي هي المورد الرئيس للتنمية الاقتصادية. فاليابان أحد أهم الدول الصناعية قامت على المعرفة والتقاليد والقيم اليابانية في الإنتاج، وهي لا تملك موارد طبيعية وتقع في جزيرة بركانية صغيرة المساحة، وكذلك تميزت ألمانيا لامتلاكها رصيدا كبيرا من المعرفة المهنية وقيم الإنتاجية في ثقافتها المحلية. وما ينطبق على اليابان وألمانيا ينطبق على دول صناعية أخرى. وجميعها تعتمد على تطبيق العلم في إطار المعرفة المجتمعية. ونحن في السعودية نملك إرثا من القيم الإنتاجية والتفكير الإبداعي في مواجهة الظروف البيئة القاسية ومعالجة المشكلات الاجتماعية والندرة الاقتصادية. ولكن كل ذلك مع الأسف تبدل واختفى بسبب الطفرات الاقتصادية والوفرة المالية التي أوهمت الناس أنهم ليسوا بحاجة إلى التفكير وبذل الأسباب كما كانت عليه الأجيال السابقة. وأصبحت تسيطر على المجتمع الشكليات حتى تحول التعليم إلى متطلب اجتماعي أكثر منه متطلبا مهنيا يسهم في الإنتاجية. فجل اهتمام أكثر الطلاب والطالبات هو الحصول على الشهادة وليس العلم. وقد لا يكون من العدل إلقاء اللائمة فقط على الطلاب والطالبات وتحميلهم كامل المسؤولية، فنظام التعليم الذي يعتمد على التلقين يتحمل جزءا، ومكان العمل الذي لا تطبق فيه المعايير المهنية يتحمل جزءا، إذ لا يتم توظيف الأفكار وتطبيق المهارات التي تعلمها الطالب في تأدية المهام. كما أن الخبرة في مكان العمل هي مجرد تكرار لإجراءات روتينية لا تضيف قيمة للعملية الإنتاجية وتطوير العمل. لقد حان الوقت إلى أن نعيد التفكير في أسلوب إدارة المجتمع والاقتصاد من خلال اتخاذ قرارات جريئة وحاسمة في خلق نظام متكامل ينظر إلى الأمور نظرة شمولية، ويتيح الفرصة في أن يعمل الجميع أفرادا ومؤسسات داخل إطار مؤسسي مشترك بدلا من حالة التشرذم الإداري في قطاعات متباعدة ومتناحرة همها الاستحواذ على الموارد دون ربطها بالتأثير النهائي والأهداف الوطنية العليا. المجتمع كالآلة لا يمكن أن يعمل دون نظام يحدد أدوار ومسؤوليات كل طرف في المجتمع. وأخشى أننا اجتهدنا في جعل تنميتنا تبدو في الظاهر قوية وجذابة ولكن دون عجلات معرفية تسير عليها. من أجل ذلك يجب أن يتحول اهتمامنا من التركيز فقط على التعليم إلى التعلم وبناء المعرفة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي