كرة القدم .. وجه البرازيل الجميل وصانعة هويتها الوطنية

كرة القدم .. وجه البرازيل الجميل وصانعة هويتها الوطنية
كرة القدم .. وجه البرازيل الجميل وصانعة هويتها الوطنية
كرة القدم .. وجه البرازيل الجميل وصانعة هويتها الوطنية

في عام 1958 فاز الفريق البرازيلي ممثلاً بالمراهق الأسود، بيليه، والعديد من اللاعبين الآخرين من ذوي البشرة الداكنة بأول كأس عالم لبلادهم. بعد النصر، كتب الكاتب المسرحي نيلسون رودريجيز: "رأيت امرأة سوداء صغيرة. كانت أنموذجاً من سكان الأحياء الفقيرة، لكن انتصار البرازيل حوّلها. كانت تمشي على الرصيف مع سحر جان دارك. الشيء نفسه ينطبق على الرجل الأسود - الجذاب، الرائع، المترف - الذي بدا وكأنه من أمراء إثيوبيا الرائعين". قال رودريجيز، إن البرازيل "لم تعُد هجينة بين الأمم".

لقد ساعدت كرة القدم البرازيل على بناء هويتها الوطنية. كذلك تؤدي اللعبة دور عدسة على هذه البلاد غير المفهومة جيداً. كرة القدم تساعدنا على رؤية جمال البرازيل، وبشاعتها، وحياة الفقراء البرازيليين التي عادة ما يتم تجاهلها. وباعتراف الجميع، معظم قصص كرة القدم البرازيلية تتجاهل النساء، لكن ـ في جزء كبير من التاريخ ـ كذلك فعل المجال العام في البرازيل. إذن، ماذا تكشف كرة القدم عن البرازيل؟

نحن الآن في أفضل وضع يخولنا الإجابة على هذا السؤال. فعلى الرغم من أن البرازيل فازت في بكأس العالم خمس مرات، وهو إنجاز لا مثيل له، إلا أنه لم تكن توجد في السابق كتابات لها شأنها عن كرة القدم البرازيلية باللغة الإنجليزية، عدا دراسة جانيت ليفير الاجتماعية الرائدة "جنون كرة القدم" عام 1983، والكتاب الصحافي الرائع لأليكس بيلوس "فوتبول: طريقة الحياة البرازيلية" الذي تم نشره في البداية في عام 2002 وجرى تحديثه هذا العام. الآن، مع اقتراب موعد استضافة البرازيل بطولة كأس العالم، أصبح لدينا طوفان مفاجئ من الكتب.

يعتبر كتاب "جولازو!: تاريخ كرة القدم في أمريكا اللاتينية"*، وهو محاولة أندرياس كامبومار، الأكثر شمولاً - شامل جداً، في الواقع. قضى كامبومار، وهو من الأوروجواي، ويعمل في مجال النشر في لندن، ساعات في المكتبة. وتأريخه عن كرة القدم في أمريكا اللاتينية يعطينا ومضات من الرؤى. لكن معظمه يشبه روزنامة من عصر ما قبل الإنترنت، مليئة بقصص مُفصّلة لمباريات ومواسم وبطولات تم نسيانها منذ فترة طويلة. لم يترك حتى حقيقة واحدة دون أن يأتي على ذكرها. وهناك حقيقة عن الأدب في مجال كرة القدم تقول: لا يوجد ما هو قاتل، بالنسبة لكاتب، أكثر من مبارة كرة قدم ميتة.

بداية متأخرة

مع ذلك، يُقدّم كامبومار القصة البرازيلية ضمن سياق قاري مفيد. كان الإنجليز الذين هيمنوا على اقتصادات أمريكا الجنوبية في القرن التاسع عشر، بطيئين في نشر كرة القدم في البرازيل مقارنة بالأرجنتين والأوروجواي الأكثر تحضرا. ولم تبدأ البرازيل باللحاق إلا في أواخر العشرينيات. وحتى في ذلك الحين، في بلاد قائمة على المذابح الجماعية والعبودية، كانت النخبة البيضاء مترددة في السماح للسود باللعب. وكان على السيليساو (الفريق الوطني)، على وجه الخصوص، أن يبقى في معظمه من البيض، لإثارة إعجاب الأجانب بالنقاء العِرقي في البرازيل. (حتى عام 1989، الأدميرال التشيلي خوسيه ميرينو، المحرّض على الانقلاب على الجنرال أوجستو بينوتشيه عام 1973، تحدّث بصخب خلال حدث مؤسف أثناء مباراة في الكرة القدم، قائلا: "لم يبدأ البرازيليون اللعب سوى أخيرا فقط"). وفي عام 1950، بعد أن خسرت البرازيل بشكل صادم أمام الأوروجواي في المباراة النهائية الفعلية لبطولة كأس العالم في استاد ماراكانا في ريودي جانيرو، أصبح حارس المرمى الأسود باربوسا كبش فداء.

#2#

"ماراكانازو"، كما وصف شعب الأوروجواي نصرهم، ربما لم يسمع به معظم البرازيليين الأمّيين في المناطق الريفية في ذلك الوقت. وبصرف النظر عن ذلك، قام الكتّاب البرازيليون بتسميته "ووترلو" أو "هيروشيما" الخاصة ببلادهم. وبعد أن تم إذلالها مرة أخرى، لم تكُن البرازيل قادرة على إزالة ما وصفه رودريجيز بأنه "مجمّع الكلاب الضالة" فيها.

دولة الفوتبول

بحلول عام 1962، كانت البرازيل قد أصبحت "دولة الفوتبول"** - ليست فقط أفضل بلاد تلعب كرة القدم في العالم، ولكن بلاد إحساسها بنفسها والصورة الدولية لها مستمدة بشكل كبير من كرة القدم. ويخبر هذه القصة بشكل أفضل ديفيد جولدبلات، المؤلف البريطاني لكتاب تاريخ معلم اللعبة "الكرة مستديرة". ويوضّح أنه قام الآن بكتابة تاريخ كرة القدم البرازيلية لأنه "كان على شخص ما كتابته". لا يوجد أي شيء مماثل، ربما ولا حتى في البرتغال. ويعترف جولدبلات بلطافة: "كان يجب كتابة هذا الكتاب من قِبل شخص آخر، يُفضل لو كان شخصاً برازيلياً، على الأقل شخص يعرف اللغة البرتغالية بشكل جيد". إن اعتماده الكبير على مصادر باللغة الإنجليزية هو في الواقع نقطة ضعف. مع ذلك، جولدبلات يملك موهبة لوضع كرة القدم في سياقها الاقتصادي الاجتماعي، وهِبة للتوليف، وبلاغة مخيفة. وبعد بداية مملة، يسمو الكتاب من عام 1950 فصاعداً.

يُبيّن جولدبلات الطريقة التي ساعدت بها كرة القدم البرازيل على تقبّل نفسها باعتبارها أمة مختلطة الأعراق. في الثلاثينيات بدأ العالِم الاجتماعي جيلبيرتو فريري بنسج قصة وطنية أصبح فيها إرث البرازيل المختلط مصدراً للفخر، وليس العار. وفي كتابه عن الحياة في مزرعة سكر في شمال شرقي البلاد، احتفل فريري بالتزاوج بين أسياد بيض وعبيد سود. قال إن هذا خلق عِرقاً برازيلياً فريداً من نوعه. في وقت لاحق، جادل بأن سمة البرازيل "الخلاسية" جلبت الرقص والبراعة والفن لكرة القدم فيها. وهذا جعل البرازيل أمة كرة قدم محتملة أفضل وأكثر جمالاً من بلدان بيضاء مثل إنجلترا أو الأرجنتين. واعتمد غيره من الكتّاب البرازيليين هذه الفكرة. وكان المثقفون في أنحاء أمريكا اللاتينية كافة يحاولون الاحتفال بإرثهم المحلي، بدلاً من مجرد ترويج بلادهم باعتبارها إصدارات أدنى شأناً من أوروبا.

غرام عالمي

اخيراً، وصل لاعبون من أمثال بيليه وجارنيشا لتجسيد نظريات فريري العِرقية. بعد أن فازت البرازيل في المباراة النهائية على السويد التي استضافت نهائيات كأس العالم عام 1958، يكتب جولدبلات "إن ملك السويد نزل فعلاً على الملعب للانضمام إلى الصخب الاحتفالي". بعدها وقع العالم في غرام كرة القدم البرازيلية. وفي عام 1962 فازت البرازيل ببطولة العالم مرة أخرى.

وبالعودة إلى الماضي، كانت تلك الأعوام عصراً ذهبياً، ليس فقط في كرة القدم وحدها. في ذلك الحين أصبحت البرازيل بلاداً أقل عنفاً، مع نمو اقتصادي سريع. لم يكن الانقلاب العسكري عام 1964 قد أتى بعد. واستمر أفضل اللاعبين البرازيليين في اللعب مع الأندية البرازيلية وليس في أوروبا. وكان للأطفال مساحات مفتوحة وفيرة لتعلّم كرة القدم. (في عام 1960 كان عدد سكان البرازيل 70 مليون نسمة فقط، أما اليوم فهو 200 مليون، وقليلون من أطفال البرازيل الفقراء شاهدوا شاطئاً في أي وقت، ناهيك عن اللعب على واحد).

وبحلول عام 1970، عندما فاز "الفريق الجميل" بكأس العالم للمرة الثالثة - لحظة الذروة للاحترام العالمي للبرازيل، وهي تعادل لحظة هبوط الأمريكيين على سطح القمر - كان النظام العسكري يعمل على استثمار "السيليساو". ففي بلاد لديها معرفة ضعيفة بالقراءة والكتابة ومع عدم خوضها حروبا حديثة لترسيخ الهوية الوطنية، احتاج الطغاة لكرة القدم من أجل بناء الأمة. ويجادل كامبومار بأن شيئاً مماثلا حدث في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية، إذ ساعدت كرة القدم الدول الحديثة الناطقة بالإسبانية على تمييز نفسها عن بعضها بعضا، ونيل الاحترام الأوروبي.

كانت كرة القدم المجال الوحيد الذي قادت فيه أمريكا اللاتينية بقية العالم، على الأقل حتى عام 1994 تقريبا. فلا عجب أن الرئيس السابق، لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، كان بحاجة ماسة لاستضافة بطولة كأس العالم هذا العام: وحدها كرة القدم التي منحت البرازيل مكاناً على الساحة العالمية يتناسب مع حجم البلاد. وكما كتب بيلوس "بريطانيا رسمت القرن العشرين مجمّعات قسمتها الحروب العالمية"، بينما البرازيل تقيس القرن ببطولات كأس العالم.
لكن على الرغم من فوز البرازيل بالبطولة عامي 1994 و2002، إلا أن ذلك لم يماثل مجد الفوز في عام 1970. في الواقع، كل فريق برازيلي الآن عليه أن يلعب ضد ذكرى عام 1970. والمهمة هنا مؤلفة من شقين: الفوز ببطولة كأس العالم، وإنجاز ذلك بطريقة "جوجو بونيتو"، أي "اللعبة الجميلة". ومن شبه المؤكد أن البرازيل لن تتمكن من تحقيق ذلك هذا العام أيضاً.

#3#

الفن أم القوة؟

وبشكل تدريجي تطور في البلاد نقاش وطني بين أنصار الـ "فوتبول ـ فورسا" والمنادون بـ "فوتبول ـ آرت"، بمعنى هل ينبغي للبرازيل أن تلعب بأسلوب يتسم بالقوم أم بالفن؟ وكان النظام العسكري ومدربو الفريق الوطني يميلون لتفضيل القوة والانضباط، بينما معظم المشجعين يفضلون الفن. وهذا أدى إلى نقاش برازيلي أوسع: هل ينبغي للبرازيل مضاهاة البلدان المُنظمة، أم أن لديها طريقاً خاصاً بها أكثر إبداعاً نحو التطوّر والتنمية؟ لقد تبلور النقاش حول هزيمة "البرازيل الجميلة" أمام إيطاليا في بطولة كأس العالم عام 1982، التي جعلت البرازيليين يبكون في الشوارع، ومن ثم الترحيب بالفريق العائد إلى الوطن كأبطال. ولا يزال كثير من البرازيليين يفضلون فريقهم الخاسر في بطولة 1982 على فريقهم العنيد الفائز ببطولة 1994.

هذه الحجج بشأن الأسلوب الوطني رواها فيرناندو دوارتي بشكل جميل في كتابه "صدمات البرازيل"***. ولكونه صحافيا برازيليا يعيش في لندن، يعرض دوارتي شيئاً فريداً من نوعه: قصة ظريفة باللغة الإنجليزية تتحدث عن تاريخ البرازيل مع كأس العالم كتبها أحد المُطلعين. وهو يُطيل الوصف أكثر من التحليل، وتبدو في الكتاب ملامح العناء في الكتابة بلغة أجنبية، لكنه يروي قصصاً جيدة، واللاعبون البارزون الذين أجرى مقابلات معهم قالوا فعلاً أشياء مثيرة للاهتمام.

الوجه القبيح

وغالباً ما يتم اتخاذ "اللعبة الجميلة" لتعكس ما تتصف به البرازيل من الجمال الحِسي. لكن بعد عام 1970 أصبحت كرة القدم البرازيلية في كثير من الأحيان تعكس بشاعة البرازيل. لنتأمل سوء معاملة البلاد لفقرائها: يحتشد المشجعون في مدرجات ضعيفة البنية، واللاعبون منهكون في مواسم الدوري التي لا تنتهي (في إحدى المرات لعب فريق إف سي سان باولو مباراتين في يوم واحد). ومعظم لاعبي كرة القدم البرازيليين يكسبون الحد الأدنى من الأجور - هذا إذا حصلوا على رواتبهم في الأساس.

تعكس كرة القدم البرازيلية أيضاً العنف البرازيلي: المشجعون كثيراً ما يتعرضون للقتل، وأحياناً على الهواء مباشرة على شاشات التلفزيون. وهناك اعتماد البرازيل الاقتصادي على صادرات "المواد الخام": اللاعبون البرازيليون البارزون كافة يلعبون الآن في الخارج، العديد منهم أصبح مُبعداً عن المشجعين في الوطن. ويقتبس دورتي عن الظهير الأيسر الرائع، روبرتو كارلوس، وهو يبدي إعجابه بساعة رولكس المُكلفة: "أنا أحمل شقة كاملة على معصمي".

كذلك هناك الفساد في البرازيل. المديرون الذين يتولون إدارة كرة القدم البرازيلية - "كارتولا" أو "الأشخاص المهمين" - يجعلون الأندية الأوروبية تبدو وكأنها نماذج رائعة من الحُكم الرشيد. فقد تولت إحدى العائلات - جواو هافيلانج وفيما بعد ريكاردو تيكسيرا زوج ابنته – خلال معظم الحقبة من عام 1958 حتى عام 2012، إدارة اتحاد برازيلي لكرة القدم، اتصف بأنه كان اتحادا مريعا. وأخيرا رحل تيكسيرا لفترة وجيزة إلى ميامي بعد بعض التسريبات المحرِجة، لكنه كان قد ترك بصمته. وكتب جولدبلات أن لجنة التنظيم الأولية لبطولة كأس العالم في البرازيل تتألف من تيكسيرا، وابنته "ومحاميه، وسكرتيره الصحافي، وسكرتيره الشخصي وخادمه، إضافة إلى الرجل الذي كان قد نصحه خلال تحقيق الكونجرس في كرة القدم عام 2001". كذلك من ضمن اللجنة كان الرئيس السابق لبنك البرازيل من العصر العسكري - لكن لا أحد من الحكومة. وفي نواح مهمة، تعتبر بطولة كأس العام المقبلة بمثابة طفل لتيكسيرا. ويشتهر خليفته، خوسيه ماريا مارين، من مخلفات الأعوام العسكرية، بوضعه ميدالية الفائزين خلسة في جيبه خلال حفل توزيع الجوائز بعد مبارة لأحد فرق الشباب. وبإمكانك رؤية السبب، ففي دراسة حديثة أجرتها مجموعة الأبحاث "داتافولها"، قال معظم البرازيليين إن بطولة كأس العالم ستجلب "خسائر أكثر من الفوائد".

أمل في الأفضل

مع ذلك، الأشياء ربما تتحسن. جزئياً بفضل العدسة المُكبرة لكرة القدم، فإن أهوال البرازيل أصبحت واضحة. كانت المظاهرات السلمية في الغالب ومعظمها من الطبقة المتوسطة خلال بطولة كأس القارات العام الماضي من بين أكبر الاحتجاجات في التاريخ البرازيلي. كان الناس يحتجون على كل شيء من أجور الحافلات إلى تعنيف المثليين، لكن كما يلاحظ جولدبلات، كان الإنفاق المُسرف على بطولة كأس العالم هو ما ساعد على إثارة الغضب. لقد ذهب تيكسيرا، وكان متوسط الحضور في المباريات المحلية يزداد، والصعود الاقتصادي الأخير في البرازيل يعني أن لاعبين أقل يغادرون من أجل اللعب في الخارج، وعلى الرغم من أن نحو نصف استادات البلاد الـ 12 الجديدة على الأرجح ستصبح دون فائدة لحظة انتهاء كأس العالم، إلا أن النصف الثاني ربما يُتيح أخيراً للبرازيليين مشاهدة كرة القدم بأمان وراحة.
حتى الآن لا تزال اللعبة البرازيلية بشعة في الغالب. وتساعدنا هذه الكتب على رؤية البطولة المقبلة بوضوح، مجرّدة من ضجيج مبالغات "اللعبة الجميلة" ومن سامبا 1970.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* Golazo!: A History of Latin American Football, by Andreas Campomar
** Futebol Nation: A Footballing History of Brazil, by David Goldblatt
*** Shocking Brazil: Six Games that Shook the World Cup, by Fernando Duarte

الأكثر قراءة