شركة الكهرباء والقفز على جمرات النار
الوقت .. الوقت. تأملاتٌ في الوقت.
لكل منا مفهومه وإدراكه الخاصّان المتعلقان بالوقت. بعضٌ من الناس يعتقدون أن كونهم منغمسين بالعمل دوما هو سر النجاح والشهرة، لذا من الممكن أن يعملوا أي شيء ليكونوا مشغولين طوال الوقت. ويتمادى البعضُ منهم بالخوف من وقت الفراغ، فلا يستطيع تحمله. كل أحاسيسه تقول له بإلحاح: "بينما أنت تعيش وقتاً فارغا، فإن منافسيك وآخرين يعملون ويجدون ويستخطونك، فانظر ما نفعك به وقت فراغك". والحقيقة أن ذاك لم يكن وقت فراع، بل راحة مطلوبة نفسيا وجسديا، وهذا الذي يفسر إصابة كثير من المنشغلين والمتشاغلين بأمراض نفسية أو اجتماعية. وإنك حين تسمع عن ممثل أو فنان أسرف في استخدام المكيفات المحرمة، فهذا لأن الواحد منهم لا يتحمل وقتا فارغا لا يكون فيه هي أو هو محور العالم..
وهناك ناس آخرون كالكتاب والشعراء ونساك وساكني الأديرة من المتبتلين عندهم كل الوقت متاح سهل رحب واسع بلا أي قلق لأنهم يستغرقونه في التأمل أو انتظار لحظات الإلهام. بل هناك من رهبان البوذية والهندوسية من يقف مكانه صائما عن الكلام والحركة .. ولا يعتبر هذا الوقت ضياعا ـــ كما سيراه أكثر من نصف سكان الأرض ـــ لأنه في حالة جموده التي تستغرق سنين يعتقد أنه يمضي أغلى وأهم وقت في الحياة.
وصار للوقت معنى مادي في العصر الصناعي، والوقت يدور في الأجواء تماما كما ينتشر الهواء. فالساعة الميكانيكية تضبط وقت الدخول والخروج ومدة الإنتاج منذ القرن التاسع عشر. كما أن الوقت صار أكثر مادية في عصر الإنتاج الكلي، فيحسب الوقت لكل جزء من المنتج، فكلما قل وقت التصنيع زاد الإنتاج، فتزيد الأموال. وهذا سبب ظهور المثل الذي استقر بأذهان الملايين حول العالم: "الوقت من مال".
الآن صار شيء آخر .. عصر المعلومات الإلكترونية.
العاملون في المعلومات والتقنية لا يمكن أن تقاس أوقاتهم ولا حتى حجم إنتاجهم لأن منتجاتهم الأفكار، والأفكار تحتاج إلى ما يسميه علم الوقت "الوقت المرن" فهم مثلا لا تضبطهم ساعات العمل المحددة، بل وقتهم متاح حسب العمل على الفكرة، أو المدة التي يلمع بها الإلهام. كما أن التقنية توهم الإنسان أنه يسبح بطبقة فوق الوقت والزمن، وكأنه تسيد على الوقت الطبيعي وسيّره كما يريد. فالفواكه والخضار التي كانت دهراً فصلية لا تثمر وتنضج إلا في فصولها واعتاد عليها الناس طبيعيا منذ خلق الله الإنسان، ومنذ عُرفت الزراعة .. الآن هي موجودة لا تختفي في كل العام. كما أننا صرنا لا نرتبط بالشمس كما كان منّا الأوائل بوجود المصابيح الكهربائية، وهذه استفادت منها مقامر لاس فيجاس، المقامرون يستمرون بالمقامرة لأن الوقت لا يعرف لسببين: أولا لوجود المصابيح الكهربائية والإسراف في جعلها مبهرة خاطفة، ثم إن في قاعات فنادق لاس فيجاس لا تُعلق الساعاتُ أبدا. مع الإنترنت لم يعد الوقت من مكان إلى آخر حائلا دون التواصل العملي والشخصي عن طريق البريد الإلكتروني .. ونحن أكثر من يعرف أن كثيرا منا يمرق الصيف دون الشعور به بسبب المكيفات الهوائية، وهذا ما يجعل شركة الكهرباء تقفز على جمرات من نار لملاحقة الاستهلاك الذي يستفحش بالذات صيفا.
كان بودي أن أكمل .. لكن ما عندي وقت!