«ساعي البريد نيرودا» .. طريقة وصف شيء ما بمقارنته بشيء آخر
يبدو الافتراض بأن الجغرافيا باعدت بين البشرية، بحيث لم تدع لها شيئا مشتركا تجتمع عليه في لحظة معينة أمرا مغلوطا. فالشعر ما ينفك يثبت أنه لغة التواصل الأكفأ على وجه الأرض، أو هذا ما تنطق به رواية "ساعي بريد نيرودا" لأنتونيو سكارميتا على الأقل. في روايته الصغيرة هذه الصادرة لأول مرة عام 1985 يتحدث أنتونيو سكارميتا عن علاقة بابلو نيرودا؛ شاعر تشيلي الأكثر شهرة والحائز على جائزة نوبل عام 1971. وماريو جيمينيز؛ ساعي بريد الشاعر.
#2#
#3#
يبدو أن التحدث بلسان شاعر مهم كنيرودا لا يخلو من مغامرة كبيرة، وهذا ما فطن له سكارميتا جيدا إذ إن لغة الرواية شاعرية إلى درجة كبيرة. في أحد المقاطع يحاول نيرودا أن يشرح لماريو معنى المجاز، فيقول له إنها "طريقة لوصف شيء ما بمقارنته بشيء آخر". وفي مكان آخر يتبادر لذهن ماريو أن العالم بأسره مجاز لشيء ما. إن سلمنا بهذا التعريف الذي صدّره نيرودا للصور التي ينضح بها الشعر، شعره خاصة، فقد نستطيع القول أيضا بأن الرواية كانت مجازا، مجازا لحياة ماريو الذي حاول أن يوقع فتاة في حبه من خلال مساعدة نيرودا له على ابتكار مجازات لغوية.
***
- ماذا قال لكِ؟ أريد أن أعرف ماذا قال عندما ذهبتما إلى الصخور.
- مجازات، ما الخطأ في ذلك يا ماما؟ تبدو عليك الدهشة.
- أنا مندهشة فعلا. إنها أول مرة أسمعك فيها تلفظين كلمة طويلة كهذه، أي نوع من المجازات قال لكِ؟
- .. قال إن ابتسامتي تظهر مثل فراشة على وجهي.
- ... كلمات الخيال هي أسوأ أنواع المخدرات.إنها تجعل فتاة صغيرة عاملة في بار تحس كأنها أميرة. ثم تأتي لحظة الحقيقة. تعودين إلى الواقع وتعرفين أن الكلمات مثل الشيك الذي لا يصرف.
في هذا الحوار السريع بين بياتريس وأمّها روزا، يظهر لنا مقدار التباعد الفكري والثقافي والمشاعري بين جيل الآباء والأبناء. لا يمكن على امرأة عجوز، عاشت في عالم من الخرافة أن تتقبل وجود عشيق لابنتها لا يحاول "استخدام يديه" معها. ثم لا بد أنه "شيوعي" طالما أنه يعرف بابلو نيرودا.
الشعر، والحب، والسياسة كانت أسبابا كافية للأم كي تبعد ابنتها عن ساعي البريد المزعوم. لكن هل كانت هذه المبررات حقا السبب في رغبة روزا بأن تبتعد ابنتها بياتريس عن ماريو؟ يبدو أنه ليس أسهل من اختلاق الأعذار في مثل هذه الأمور، وتغليفها بقالب التجربة والخبرة الطويلة في الحياة، أملا بأن يعطيها هيئة الحكمة التي ما تلبث أن تنكشف على حقيقتها أمام جدار إرادة بياتريس وماريو الصلب.
لم يشأ سكارميتا لروايته هذه أن تبتعد كثيرا عن السياق التاريخي للأحداث، ففي مشهدين منفصلين، يوصل ماريو في أحدهما برقية لنيرودا، تخطره بترشيح الحزب الشيوعي له لانتخابات الرئاسة، والثاني يستمع فيه ماريو وبياتريس (التي أصبحت زوجته بشكل رسمي) لخطاب فوز نيرودا بجائزة نوبل للأدب عام 1971. كلا الحدثين حدثا في فترة واحدة تقريبا، وكلاهما شكل جزءا مهما من تاريخ تشيلي الحديث، فنهاية الأول كانت بانقلاب عسكري واغتيال سلفادور الليندي؛ الذي تنازل له نيرودا عن الرئاسة (هل كان نيرودا سيغتال لو أنه فاز بكرسي الرئاسة؟) . ونهاية الثاني كانت بوضع تشيلي على خريطة الأدب العالمي، ليأتي سكارميتا من بعد - لا واعيا - ويرد العرفان للرجل الذي اجترحت يداه كل هذا من قبل. لكن يبقى هذا من الناحية النظرية، والمعالجة الفنية وحدها التي تحكم على الروائي. في المشهد قبل الأخير، يدور حوار بين نيرودا وماريو، يظهر فيه نيرودا على حافة القبر، مطالبا بـ "إرساله للحانوتي" جرّاء ما آلت إليه الأوضاع في تشيلي:
- أكثر من عشرين برقية جاءتك منذ يوم أمس. حاولت أن أجلبها لكنني لم أستطع المرور بين الجنود. فاضطررت للعودة. عليك أن تسامحني يا سيد بابلو على ما فعلته ولكن لم تكن هناك طريقة أخرى.
- ماذا فعلت؟
- فتحت البرقيات وحفظتها لكي أستطيع أن أبلغك ما فيها.
- ومن أين جاءت؟
- من كل مكان. هل أبدأ من برقية السويد؟
- هيا.
- "حزن وسخط على اغتيال الرئيس الليندي. الحكومة والشعب يقدمان فرصة اللجوء لبابلو نيرودا. السويد".
- غيرها.
- المكسيك تضع طائرة تحت تصرف الشاعر بابلو نيرودا وعائلته للرحيل الفوري.
- ماريو.. طوال حياتي كان لي وجه كوجه البومة ولكن لم تكن لي عينان كعينيها. ما الذي يفعله هؤلاء على تلك الصخور؟
هنا تتوضّح أكثر قيمة نيرودا الإنسانية، إذ إنه لم يأبه لكل تلك الدول التي تدعوه كي "يموت على أرضها"، بل ظل يهجس بالبحر، والناس الذين يمرحون على صخوره. كان يريد أن يرسل مباشرة للحانوتي فهو "يعلمك الفلسفة"، تلك التي يجهلها العسكريون الذين يحيطون بمسكن نيرودا كالكماشة. كان يريد أن ينظر من النافذة، وإن كانت النوافذ لا تحفل إلا بالخراب وقتها.
أنتونيو سكارميتا، المولود عام 1940 كان قد أصدر ثلاث روايات قبل هذه الرواية، وأصدر غيرها العديد من الروايات أهمها عرس الشاعر، وفتاة الترومبون، وغيرها من الكتب التي توزعت بين قصص قصيرة وترجمات ومقالات كلها بالإسبانية. جدير بالذكر أيضا أن هذه الرواية تم تحويلها إلى السينما عام 1994 باللهجة الإيطالية تحت عنوان il postino بإخراج المخرج الأمريكي مايكل رادفورد.