حول إشكالية العلم والحكم: مثال على تعارض الأحكام
يسألني كثير من طلبة الطب حول التدريب العملي على الجثث، وهو ضروري لمعرفة أعضاء الجسم وجراحتها وكيفية تأثرها بالأمراض والأدوية. وسمعت أن هذه مشكلة جدية في جامعاتنا، يواجهها أيضا مبتعثونا في الخارج. فهم يعلمون أن الطالب لا يصبح طبيبا ما لم يقم بتجارب فعلية على جثة إنسان، لكنهم يستذكرون تحريم الفقهاء لهذا العمل.
معظم الفقهاء الذين حرموا التشريح، رجعوا إلى نصوص مشهورة تحرم المثلة. ومفهومها هو التمثيل بالجثث بغرض التنكيل والإهانة، لكنهم مددوا الحكم فمنعوا كل عمل ينطوي على تشويه جثة الميت أو يؤدي إليه، حتى لو كان المقصد مشروعا.
قبل مدة أنفقت بضعة أشهر في بحث الأحكام الخاصة بالتبرع بالأعضاء البشرية وبيعها، واستقصيت تعريف الفقهاء لعناصر الموضوع وآراءهم واستدلالاتهم، فوجدتهم بين ممانع ومتحفظ، وإجازة بعضهم بناء على ترجيح المصالح المنظورة أو بعنوان الاضطرار. ووجدت مثل هذا الاختلاف في حكم تشريح جثة المسلم بغرض الكشف عن جريمة قتل مثلا.
الموقف الفقهي من التشريح والتجارب على الجثث والتبرع بالأعضاء، أو قبض ثمن على أي من تلك الأمور، هو واحد من المواضع التي تكشف عن تعارض بين حكمين: الوجوب الكفائي لتعلم الطب من أجل إنقاذ الأحياء من الموت، أو ما يحتمل أنه وجوب عيني لإنقاذ مريض على شفا الموت، وبين التحريم المنصوص لإهانة الميت والتمثيل به.
وأراه مثالا على منهج في الاجتهاد يستدعي مراجعة جذرية. وسبق لي أن اقترحت مسارا مختلفا عما تعارفت عليه مجامع العلم الديني، مسار يبدأ بدراسة الموضوع بصورة مستقلة عن الأحكام والنصوص السابقة. وهو مسار يستهدف كشف المصالح الجوهرية والثانوية في كل موضوع، ثم إعادة قراءة النصوص والقواعد الفقهية الموروثة في ضوء ذلك.
ويهمني التركيز على الفارق بين الفقه الموجه لفرد بعينه، والفقه العام، الذي تقوم عليه قواعد قانونية لمجتمع بأكمله، فمعظم النوع الثاني مبني على أرضية المصلحة. والمصالح كما نعلم، أمور عرفية عقلية، نرجع في تشخيصها إلى أهل الخبرة في كل حقل من حقولها، وليس إلى الفهم العام أو رأي الفقيه.
لو درسنا موضوع المثالين السابقين: التشريح والتبرع بالأعضاء "أو بيعها"، وبحثنا عن المصلحة الأثقل وزنا والأكثر أخلاقية، دون الانشغال الذهني بالحكم المتعارف ــــ في مرحلة البحث العلمي على الأقل ــــ فسنجد فسحة واسعة لتكييف جديد يخالف الفهم الأولي والمسلمات السائدة.
مثل هذا البحث لا يستهدف فقط الخلاص من حرج الالتزام بالأحكام الموروثة. إن غرضه الرئيس هو تمهيد الطريق لاستعادة الدين دوره كقائد للحياة العامة. لقد تسبب الفقه القديم في تحويل الدين إلى قيد على عقول الناس وحياتهم بدل أن يكون مفتاحا لمغاليقها وسبيلا إلى ارتقائها، ولا سبيل لتغيير هذا الحال سوى تجديد الفكر وعقلنة الفقه.