الأرض تتسع للنصر والهلال
يقول الهلاليون إن النصراويين لم يصدقوا انتصارات فريقهم المتصاعدة هذا الموسم، وإنها أخرجت في دواخلهم المكبوت من سنوات المرارة والصبر، واختلط فيهم العاقل بالجاهل فلم تعد تفرق بينهم. ويقول النصراويون إن عودة الأصفر إلى سابق عهده، أظهرت بكائيات زرقاء لم تكن، وآلمتهم حتى سقطت مثاليات بعضهم المزعومة وظهروا على حقيقتهم، وإن الجانبين شوهوا جماليات الرياضة.
.. في القولين الكثير من الصحة والصواب، ومن يعارضهما أيضا لديه بعض صواب. والتعميم في القولين خطأ ظالم، يغض الطرف عن نماذج ما زالت متمسكة بمواقعها رغم قوة المؤثرات، وفي المجمل عامة، نظرة سطحية للمسرح الكبير.
الجيل الحالي من مشجعي الناديين لم يشهد صراع القطبين في الثمانينيات ومنتصف التسعينيات قبل أن تغرب شمس النصر في نهايته، ويتحول المشهد إلى القطب الأحادي فقط، ولذلك جن جنونهم مع أحداث التنافس الحالية التي سمعوا عنها ولم يشهدوها. لم يعش الجيل الحالي من مشجعي الناديين، تبادل الفريقين مراكز التتويج بين دوري وكأس مطلع الثمانينيات وما أفرزته آنذاك من مواهب أسهمت في خلق جيل هيبة الكرة السعودية في القارة الصفراء.
الحقيقة أن كثيرا من مسؤولي الناديين الحاليين طالهم التأثير أيضا، وفقدوا بعضا من وقارهم المزعوم، فسايروا المدرجات في كثير من أطروحاتهم طوال الموسم، وإن كنت أسجل إعجابي بقدرة رجل النصر الأول فيصل بن تركي على الاحتفاظ بهدوئه ووقاره رغم تلاطم الأمواج.
ما أحدثه القطبان العاصميان في العاصمة، ليس أحد اختراعاتهما، بل هو موجود ومشهود بين الريال والبرشا، ومولود منذ سنين بين روما ولاتسيو، والأهلي والزمالك، والوداد والرجاء، ووصل في كل تلك البلدان إلى خارج ميدانه الرياضي مؤثرا في كل الأوساط الأخرى، بدءا من الأسرة والمدرسة ونهاية بالمجتمع الكبير.
ورغم الجدل المحتدم في أي مكان عند ذكر الهلال والنصر جنبا إلى جنب، وكأنك تقرب الكبريت من البنزين، ورغم أن الجانبين لا يتفقان على أي شيء هذا الموسم، قدر رغبة كل واحد منهما في ضرب الآخر حتى صرعه، إلا أن في تنافسهما الكثير من الإيجابيات التي تنزوي خلف هذا الصراع العجيب الممتع.
عودة النصر لمنازلة الهلال رأسا برأس قفزت بمشاهدي الدوري الممتاز خلف حاجز نصف مليون مشاهد مع انتهاء الدور الأول وهو رقم لم يعرف سابقا، ومرشح للتصاعد بالمثل في نهايته. وصراع الغريمين الكبيرين هذا الموسم، استفز شرفييهما، فعاد الكثير منهم إلى المتابعة والتبرع والدفع بهدايا التحفيز ومحاولة اقتناص ضوء من المشهد المهيب. صراع العاصميين أعاد الحياة لوسائل إعلامية فقدت بريقها كالصحف الورقية، وسمح لشركات عملاقة مثل "موبايلي" و"الاتصالات" بإعادة النظر في حجم استثماراتها الرياضية. كل هذا وأكثر من أجل فريقين فقط؟ ماذا لو كانوا ثلاثا أو أربعا؟ ماذا لو كان الأهلي والاتحاد في كامل عافيتهما والشباب في صحته، والاتفاق في أوج عصوره؟.
.. تجربة فيصل بن تركي مع النصر، يمكن أن تستخلص منها الحكومة السعودية، فوائد جمة، تعيد معها نظرتها للرياضة عامة، تستثمر فيها المال والشباب، وتعيد صياغة مفهوم كرة القدم والألعاب الأخرى في البلاد. النصر والهلال، أثبتا هذا الموسم أن الكرة قد تكون معول بناء يحمله كل الشباب، ينتفعون به، وينفعون مجتمعهم، ويمارسون ما يحبون، ويهجرون ما يقود إلى الزلل.
ليس صحيحا، أن صراع الموسم الجاري، يثبت أن فهم الكثيرين للرياضة، ينطلق من أن الأرض لا تتسع للهلال والنصر معا، بل تتسع لهما، وللاتحاد والأهلي والاتفاق والطائي والشباب وقطبا بريدة والآخرين. عندما أبدع الشباب الرياضي في بلادنا عادت أشياء كثيرة، وبعضها يحتاج إلى الثقة وضمانات الديمومة، حتى يشارك في المشهد الخلاب، هذه الضمانات لا يمكن أن يقدمها إلا الحكومة، فهل تفعل؟