رؤية اجتماعية في حرب سورية

بعد مرور أكثر من ثلاثة أعوام على بداية الحرب في سورية ومناشدة الشعب السوري لحقوقه التي استقبلها النظام بآلة القتل والتصفيات والحصار بدعم إيراني، والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا صبر ويصبر السوريون، ومن قبلهم غيرهم على كل هذا التعب والتضحيات؟ لماذا لم تنته الحرب؟ هل هناك إرادة لإنهاء الحرب من قبل النظام الدولي، أم أن هناك رغبة لتوريط أكبر عدد من الشباب للدخول في هذه الحرب؟
والجواب إن الشعوب لا تميل إلى الحروب، ولكن قد يصبح الامتعاض سبيلاً إلى أن يصل الناس إلى عنق الزجاجة الحرج في درجة التحمل، ويصبح الانفجار الاجتماعي قاب قوسين أو أدنى ويظل يبحث عن سبب فقط لحدوثها.
والإشكال الذي تمارسه بعض النظم أنها لا تستشرف المستقبل في ملاحظة بوادر الاحتقان والسخونة الاجتماعية ولا السعي جديا إلى الحلول، وإنما إلى المسكنات، فملاحظة التغييرات الاجتماعية والقيام على حماية البلد يكون عبر صناعة العدل وحماية الحقوق .. والتنفيس عن الناس بإتاحة الحريات وتوسيع مجالات المشاركة الإصلاحية لجميع أطراف المجتمع ولو عبر برنامج متدرج .. قد يقودها التطلع للحفاظ على قيم الإصلاح ومكتسباته.
ولذلك فإن انفجار الاحتقان والصبر على التضحيات رغم استمرار آلة القتل لم يكن وليد اللحظة، إنما هي تراكمات كبيرة وعميقة من الأخطاء ورأى الجميع موقفا فرديا كيف فجر أحداثا يصعب التنبؤ بها، والجماهير تتحرك أحيانا كديناصور ضخم بروح واحدة غريبة وغير متوقعة في بعض الحالات .. وأخطر تلك الحالات هي الانفجار غير المتوقع حين يعصف فيقلب كل الموازين، وتضطر القوى الداخلية والخارجية للتعامل معه على أنه الواقع والمستقبل، فتسعى للتحالف معه وتأمين مستقبلها.
ويعتقد البعض أن الصبر على آلة القتل وفقدان الأبناء وتدمير البيوت وتقديم التضحيات كانت تغييرا فجائيا شعبيا، وهذا انطباع ناقص، فجميع التغيرات التي صنعت تأثيرا جاءت بعد مقدمات وإرهاصات وأسباب كافية.
كانت تغييرات الشعوب نتيجة اختلالات ومشكلات وعجز وقمع وانتشار للفساد وضعف الأداء الإداري والاقتصادي لمدخرات البلد، في مقابل روح وحراك وإصرار ورؤية في وضع مقابل.
إن السبب الحقيقي الذي يكمن وراء هذه الأسباب الظاهرية، هو التغير العميق الذي يصيب أفكار الشعوب، ولذلك قد تتغير الأمور إلى الأفضل أو إلى الأسوأ؛ لأن هدف الجماهير لحظتها فقط التغيير وبمجرد أن يجتمعوا على هيئة جمهور فإن الجاهل والعالم يصبحان عاجزين عن الملاحظة والنظر إلى ما بعد التغيير.
إن الإدراك المتنامي المتزايد لمفاهيم حقوق الإنسان، وانتشار ثقافتها واتساع دائرة المعرفة والتعليم جعلت الإنسان المعاصر يعيش بعقلية مختلفة عما كان عليه في عصور الجهل وغيبة الوعي، ما جعل سقف المطالبات يرتفع والاحتقان يزداد أكثر فأكثر عما كان عليه سابقاً.
ومن يراقب وسائل التواصل الاجتماعي يرى أن وصف المتغيرات أشبه ما يكون بنوع من "الحمَّى"، لها نُذُر ودلالات، ويعرفها الطبيب المختص وليس كل أحد، ويصحبها "هذيان" أحياناً، ونكسة أو نكسات، ويكتسب المريض مناعة لفترة. ربما كانت التقنية الحديثة والفضائيات والإعلام الجديد "فيسبوك" و"تويتر..." بيئة ملائمة ليلتقي "المهمَّشون" ويكتشفوا أهميتهم والإمكانات المذخورة البسيطة والعظيمة معاً.
إن نار الحرب تقتات على المجندين من كلا الطرفين، والأدهى أن يزج الشباب إلى هذه النار تحت مسمى الجهاد والتضحية، بينما هم أدوات لقوى كبرى تمسك بزمام اللعبة وتجيد افتعال الأزمات الطائفية والعقائدية، لكي تسيطر على المنطقة تحت مسميات كثيرة.
إن إشكالات المجتمعات في حرب سورية لا تقف عند هذا الحد، بل تذهب إلى حد بعيد فتجد أن الاستخبارات العالمية تلعب دورها في تجنيد جميع الفئات للدخول في تدمير المكتسبات فيضيع الشباب في عمر الزهور في محرقة القتل، بحيث تمتص هذه الحروب كل الطاقات في معارك لا راية فيها، والأدهى من ذلك أن يكون القتال بين المسلمين تحت مظلة الغلو والتطرف الذي يجد بيئته في كل حرب، ومع ازدياد العدد ندخل في دائرة الانقسام والاحتراب الفكري والجسدي.
لذلك قال كيسنجر في أحد لقاءاته بعد الثورات العربية، إن المحتجين الغاضبين يعرفون جيداً كيف يلتقون، ولكنهم بعد أن يسقط النظام لا يعرفون ماذا يريدون أن يقدموا. ولذلك ينبغي ألا يغيب التحليل السياسي عن هذه الحرب وتبعاتها، فلا يمكن الاقتصار على التحليل العقدي والاكتفاء به لشحن الشعوب من خلال وسائل الإعلام، بل ينبغي أن تعرف الشعوب أدوات هذه الحرب وآلية الخروج منها وكيفية التعامل مع جميع تطوراتها الاجتماعية والنفسية، خاصة في بلدان الجوار الذين يدفعون فاتورة هذه الحرب من خلال استمرار القلق وعدم الاستقرار فضلاً عن وجود النازحين الذين هم ضحية هذه الحرب في منظر يقضي على كل المعاني الإنسانية.
إن التغيير سنة كونية لها مقدماتها التي تؤول إلى نتائج وقد يتوقع الناس هذه النتائج، وقد تغيب عن العصف الذهني في ظل سخط الواقع، ولكن إذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه من دون أي توقع، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي