فرقة «الفارابي» .. قفز على الجذور الموسيقية وتمسك بالموروث اللغوي
يقول الأديب والشاعر الفرنسي فيكتور هوجو: "الموسيقى الحقيقية هي التي تعبر عما لا نستطيع قوله ولا نستطيع السكوت عنه"، ربما في هذه المساحة الحائرة من الشعور يمكننا فهم النتاج الموسيقي المختلف لفرقة "الفارابي" السعودية، التي تتخذ من مدينة جدة منبتاً ومركزاً لها.
فرادة التجربة "الفارابية" تأتي من قفزها وتجاوزها الجذور الموسيقية في مقابل هيامها بالموروث اللغوي، المتمثل في انكفائها على غناء الأبيات الشعرية باللغة العربية الفصحى، من خلال تنقيب الفرقة في روائع الأدب العربي بكل حقبه الزمنية، من العصر الجاهلي إلى الحديث.
المزج العصري المنفتح على مختلف المدارس والآلات الموسيقية الحديثة مثل "الدرامز" و"الجيتار الإلكتروني" مع العود الشرقي، والبيانو، إضافة إلى كلمات المفردة العربية الأصيلة، خلق مزيجاً جذاباً لهوية الفرقة الموسيقية. جعل تجربتها أشبه ما تكون بحالة من "التصوف الموسيقي" بانعتاقها من كل القوالب الإبداعية التقليدية وميلها لقصائد "الحكمة" في الأدب العربي كمحتوى لفظي، مثل ما هو الحال مع أغنية "يا عادلاً"، التي لا يمكن تصنيفها كمقطوعة حزينة أو معزوفة سعيدة، لكنها حتماً قطعة متفائلة ومتسائلة.. وملأى بالشجن الجريح.
#2#
في عام 2008 بدأ كل من مثنى وضياء بعزف الموسيقى معا على الإنترنت، حيث كان كل منهما يدرس في بلد مختلف، خارج السعودية في رحلة تعليمية. عندما عاد كل منهم لمدينته جدة. بعد التخرج، قام ضياء بتأسيس أستوديو إنتاج خاص به تحت اسم "Libra Productions".
وأدت الفرقة أول أغنية رسمية لها تحت اسم "قصة ملك"، سجلت وأنتجت في الاستوديو الخاص بضياء عام 2010، وكانت تلك الأغنية بداية الانفتاح على جمهور المستمعين. وفي عام 2011 قرر مثنى وضياء أخذ خطوة أبعد وعمل المزيد من الأغاني بالأسلوب نفسه لتسجيلها ونشرها، نتج عن هذا القرار إنشاء فرقة كاملة.
وتم اختيار بقية أعضاء الفرقة لما يملكونه من إمكانات مختلفة، وخبرات موسيقية متنوعة، ليكملوا الفرقة انتهاءً باختيارهم ثامر فرحان كمدير لهم الذي قام أيضا باقتراح اسم الفرقة "الفارابي".
#3#
يقول ثامر في حديثه لـ "الاقتصادية الثقافية": "النمط الذي قامت عليه فرقة الفارابي يسمى بـ Fusion أو المزج، الفكرة الأساسية منه مزج أنماط مختلفة تماماً موسيقية عن الأخرى اعتماداً على ثقافات موسيقية مختلفة، عند تأسيس فرقة الفارابي كان العشق للغة العربية الفصحى هو الأساس لقيمة الكلمة فيها وزناً ومعنى. أضف إلى ذلك توسع نطاق المواضيع التي نوقشت في الشعر العربي بدءاً من العصر الجاهلي مروراً بالأموي والعباسي والأندلسي كل حسب موروثه الاجتماعي.. فالتنوع والعمق كان مناسباً جداً لفكرنا الموسيقي، ربما تأثرنا الشديد ببعض الموسيقيين ممن سبقونا في فنون المزج كـ "سعاد ماسي" و"ظافر يوسف" على المستوى العربي و"ياني" و"أناثيما" على المستوى الأجنبي ساعد كثيراً في توسع ثقافة الفرقة وجرى اختيار أعضائها منذ البداية بناء على اختلاف الخلفية الموسيقية من "الميتال" كما في عماد عازف الدرمز والروك والجاز كضياء عازف الجيتار والروك والفنك كأنس عازف البيس والموسيقى الخليجية كأحمد عازف العود والموسيقى العربية والأجنبية الكلاسيكية كساهر عازف البيانو، انضم لنا فيما بعد بعض الموسيقيين والمغنيين كمشاركين في بعض الأعمال مثل ريان عازف الجيتار وطلال وعزام بأصواتهم الجميلة".
ويضيف ثامر: "فن المزج يعتبر نوعا ما فنا تجريبيا.. لا حدود فيه ولا قوانين تحكمه.. بإمكانك عزف ما تريد ومزج ما أردت متى ما كان متناسقاً موسيقياً مع الآخر".
والحال، أن الفارابي أحد أعلام التاريخ، ذو لمسة "حداثية" في عصره. ولد في مدينة (فاراب) من أعمال تركستان سنة 865 ميلادية، ورحل صغيرا إلى بغداد، حيث تعلم العربية والطب والفلسفة والمنطق والموسيقى، ثم رحل إلى حلب وفيها كتب أكثر مؤلفاته في عهد الأمير سيف الدولة الحمداني الذي استضافه طوال حياته واشتهر بحسن عزفه الموسيقي.
ألف "الفارابي" من ضمن مؤلفاته القيمة "كتاب الموسيقى الكبير" الذي طرح فيه نظريات موسيقية عديدة من أبرزها "فكرة تبدل الأذواق الموسيقية".
فرقة "الفارابي" في أولى مشاركتها الخارجية أخيراً، أحيت ثلاث أمسيات في دولة النمسا في مدينة "سالزبرج"، كانت إحداها في القصر الملكي القديم للمدينة في الصالة ذاتها التي عزف بها من قبل الموسيقار الاستثنائي العالمي "موتسارت"، وفي قاعة البلدية للمدينة. كما شاركت الفرقة ضمن مؤتمر "فكر" العربي الذي أقيم في دبي.
تبقى هذه التجارب الإبداعية على امتداد الجغرافيا السعودية تفتقد الحواضن الثقافية الحقيقية، ما يعطل انتقالها من تجربة "الهواة" إلى "المحترفين"، ليس على المستوى الموسيقي فقط، بل والتمثيلي والإخراجي والسينمائي وبقية الحقول الإبداعية الأخرى، في غياب حقيقي لدور فاعل من قبل جمعيات الثقافة والفنون السعودية.
هذا الغياب "المؤسسي" لرعاية بذرات المواهب المتنوعة في الحياة السعودية يعيق ليس التطور الطبيعي للتجربة الفنية، بل ويحرمها عمقها التراكمي الذي يساعدها على خلق هويتها الخاصة.
يقول ثامر وهو يواصل "دردشته" لـ "الاقتصادية الثقافية": "الأكثر أهمية وما أعتقد أنه يُغيِّب تطور المناخ الموسيقي في السعودية هو انعدام العروض الحية التي تشكل الوقود بالنسبة لأي فرقة أو فنان موسيقي. في السعودية إما النمط الخليجي المألوف والمتكرر بلا تغيير منذ عقود أو لا اعتبار لك للأسف، كعدة أشياء أخرى".
ويزيد: "التغيير يقابل بالرفض والجديد يقابل بالعداوة.. شركات الإنتاج إما أن تدعمك مقابل شروط تعجيزية وتتحكم فيك على المستوى الإبداعي والإنتاجي وحتى على الصعيد الشخصي، وإما ألا تعيرك اهتماماً بتاتاً.. قنوات الراديو بالحرف الواحد أجابنا أحد المسؤولين عنها.. نمطكم غير مرغوب.. ما فيه "شكشكة". في السعودية استعاضت معظم الفرق الموسيقية على الأقل مؤقتا باليوتيوب أو الساوند كلاود عوضاً عن العروض الحية ولكن للأسف.. هذا لا يكفي. نحن بحاجة لعروض حية دون تعقيدات حتى يتسنى للموسيقيين إظهار ما يملكونه مهما اختلف نمطه".
يرجح علماء تاريخ الحياة الموسيقية بأن كلمة الموسيقى يونانية الأصل. وقد كانت تعني سابقا الفنون عموما، إلى أن أصبحت فيما بعد تطلق على لغة الألحان فقط. وقد عرفت لاحقاً الموسيقى كصناعة يُبحث فيها عن تنظيم الأنغام والعلاقات فيما بينها وعن الإيقاعات وأوزانها. وهي ذلك الفن الذي لا يرتبط فقط بالأصوات وحدها، بل وبفن السكوت في الوقت المناسب أيضاً.
التجربة الموسيقية السعودية عبر تاريخها الحديث قدمت نماذج لافتة على مستوى العالم العربي، وكان ملهماً جداً خروج كل تلك المواهب الخلاقة من هذه الجزيرة المسترخية على مفترق قارتين، غير أن تجربة فرقة "الفارابي" ربما تؤسس لتجربة موسيقية أكثر حداثة، لا تتواصل مع المحيط القريب فقط، بل وتتجاوزه لمحيط وعوالم لم يكن من ضمن الحسبان طرقها.
وكما تقول العبارة الشهيرة لأحد المؤرخين: "لقد وجدت حضارات بلا رياضيات وحضارات بلا رسم، حضارات حرمت من العجلة أو الكتابة لكن لم توجد حضارة بلا موسيقى".