داود الشريان .. «كبريت الصحافة»
"احتسِ (احكِ) الناس مثل ما أنا". بهذه اللهجة المحكية النابعة من عمق منطقة القصيم، ومن مدينة عنيزة تحديدًا، حيث وُلد، يختصر داود الشريان سبب نجاح وشهرة برنامج الثامنة. الشريان صحافي ومقدم برامج سعودي، تخرَّج في جامعة الملك سعود تخصص الصحافة عام. وكانت بداية عمله في الصحافة في صحيفة "الجزيرة"، ثم التحق بمجلة "اليمامة"، وأصبح مديرًا لتحريرها. ثم صار أول مراسل لوكالة "أسوشيتد برس" في المملكة في تلك الفترة.
الشريان يُلقّب في الأوساط الإعلامية بـ "كبريت الصحافة" وكأنه يتمثّل مقولة "مورت روزبنلوم"، زميله المراسل في وكالة الأنباء العالمية أسوشيتد برس: "حين يأتي النداء في منتصف الليل، فعلى الإطفائي ارتداء لباسه بسرعة وإطفاء النار. أما المراسل فعليه أن يخبر مليون شخص من أشعل عود الكبريت ولماذا؟". وهنا تحديدا يختلف حول داود الكثيرون فمنهم، وعطفًا على هذه المقولة، من يُثني عليه حين يرى أنه يتمثل دور المراسل الذي عليه أن يخبر الناس من أشعل الكبريت. ومنهم أيضًا من ينتقده حين يرى أنه هو الكبريت الذي أشعل الحريق!
تقلبات الشريان وتجاربه المتعددة في العمل الصحافي، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار تدفع البعض لتبرير هذا الشك. فهو الذي لم يمانع في الثمانينيات من العمل مديرًا عامًّا لمجلة الدعوة ورئيسًا لتحريرها، ثم رئيسًا لصحيفة "المسلمون الدولية" وكلتا الجهتين كما هو معروف محسوبتان على توجه إسلامي سلفي محافظ.
وتبعا للسياق "الناري المشتعل" نفسه يبرر الشريان في لقاء تلفزيوني لـ "روتانا خليجية" عمله مع مجلة "الدعوة" بأنه لم يكن برغبة مباشرة منه إنما كان بسبب "نيران صديقة" ألقت به في هذا المكان، بحسب تعبيره. إذ كان في زيارة لأحد المسؤولين، الذي كان بدوره يبحث عن رئيس تحرير لمجلة "الدعوة" فاستشاره في الأسماء المطروحة فما كان من الشريان، إلا أن انتقد جميع الأسماء مؤكدا لهذا المسؤول أن المجلة في حاجة إلى "صحافي" أكثر من حاجتها إلى دعاة أو مشاهير أو أكاديميين. فكان أن وقع اختيار هذا المسؤول في الجلسة نفسها عليه فقبل على مضض. ثم بعد فترة تكرر طلب مشابه ـ لكن هذه المرة ـ مباشر من الأمير الراحل أحمد بن سلمان للعمل رئيس تحرير لصحيفة "المسلمون" وهو الطلب الذي لم يستطع الشريان رفضه تقديرًا للأمير أحمد.
في عام 1993 بدأ عمله مع صحيفة "الحياة" كمسؤول تحرير وإدارة في السعودية ودول الخليج. أي أنه بنهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، انتهت علاقته بالعمل الصحفي مع صحيفة "المسلمون". لكنها في الوقت نفسه كانت بداية لخلاف الشريان مع بعض الإسلاميين، وتحديدًا مع سلمان العودة إثر مادة صحافية في "المسلمون" حول الحادثة الشهيرة لخروج بعض النساء والأكاديميات في تلك الفترة لقيادة السيارة.
فالشريان ارتأى من خلال هذه المادة مواجهة بعض الإسلاميين، الذين كانوا يؤججون الرأي العام حينها ضد هؤلاء النساء، بفتوى ونقولات لابن عثيمين لا تجيز القدح في الأعراض دون تثبت. فعمل على الاتصال بالعودة ليدعم المادة بتعليق منه، فما كان من العودة ـ بحسب الشريان ـ إلا أن أشار عليه بالرجوع لإحدى محاضراته المسجلة، فاعتبرها الشريان موافقة ضمنية تُعمّده لإدراج التعليق ضمن المادة، وهذا ما أغضب العودة بعد نشر المادة الصحافية لينكرهُ لاحقًا في إحدى خطبه.
نهاية الألفية الثانية وبداية الثالثة كانت نقلة نوعية للشريان على مستوى طبيعة العمل الصحافي. وفيها انتقل من المقروء إلى المسموع والمشاهَد، ومن المكتوب المطبوع للحواري المسجل والمباشر، ففي عام 2004 عمل مع تلفزيون دبي وقدم برنامجًا سياسيًّا أسبوعيًّا هو برنامج "المقال". لم يكن البرنامج حينها شعبيًا أو جماهيريًا بقدر ما كان نخبويًا، ومع ذلك حصد نجاحًا لا بأس به بالنسبة للشريحة المستهدَفة منه على مستوى العالم العربي.
ثم عاد الشريان بعد ذلك للشأن المحلي حين انتقل للعمل في "العربية" ومع مجموعة "إم بي سي" ليطلق من هناك برنامج "واجه الصحافة" وهو برنامج يغلب عليه الطرح المحلي وليس العربي كما كان عليه الحال في برنامج "المقال".
وفيما يبدو أنه امتثال جزئي لرغبات الجمهور غابت صورة الشريان عن البرنامج الإذاعي "الثانية مع داود" على "إم بي سي إف إم". إلا أن صوته الحاد ولهجته القصيمية المشاكسة لم تغب، مع التركيز هذه المرة على الجانب الخدماتي الاجتماعي البحت. وهنا يبدو أن داود استطاع فك شفرة "الجماهيرية" جيدا، فاللهجة المحكية إضافة إلى محاكاة هموم المواطن اليومية والتفاعل معها مباشرة، بشكل يعتبره البعض "عفويًا" فيما يعتبره البعض الآخر "مسرحيًا"، هو كل ما تحتاج إليه الشهرة والانتشار الواسع محليًا.
وامتدادًا لنجاح الثانية مع داود أتت "الثامنة مع داود" صوتًا وصورة. مع مباشرة في الطرح والمواجهة، ومع زيادة في الحِدة أو العفوية (تعددت الأسباب والطرح واحد). حلقات شبه يومية راهن الكثيرون على فشلها وترهلها في المقبل من الأيام. ولكن هذا الأمر لم يحصل، بل إن سقوف الطرح والجرأة ارتفعت مع الشريان معتمدة على سمة أساسية متكررة وهي "الرجل الواحد في مواجهة المسؤول" أو "الرجل الواحد من أجل قضايا المجتمع".
"الخبر الجدي هو الذي يثير انتباه المتلقي أما المقالات والقصص الإخبارية فتستحوذ عليهم" هذا ما يقوله، ألفرد تشارلز ويليام، ناشر ومؤسس صحف. وهو أيضًا ما أثاره انتقال الشريان وغيره من الصحافيين للتلفزيون والقنوات الفضائية.
من جهة أخرى، كان التنافس على أشده إعلاميًا إلى أن حصل الشريان على لقاءات حصرية لسجناء "القاعدة" في السعودية. وهنا بدا وكأن الشريان قد خطى خطوات كبيرة بعيدًا عن منافسيه. فثارت الأسئلة والشكوك من جديد حول قدرة وقوة هذا الشريان.
وعن هذه الفرصة وكيف تمت؟ يقول الشريان بكل بساطة في تصريح لـ "العربية": "أجرينا حلقات سابقة عن السعوديين المحتجزين في العراق، وبعد هذا جاءتنا رسائل حول المحتجزين داخل السعودية (…) ومن هنا تواصلنا مع المسؤولين في السعودية، وفي بادئ الأمر كانت الفكرة مرفوضة من قبلهم إلا أننا ألححنا عليهم، وتم إعطاؤنا فرصة للقاء هؤلاء الشباب (…) وهناك من رفض الظهور وآخرون قبلوا به".
في اللقاء نفسه مع "العربية" يضيف الشريان: "المشكلة أن أبناء السعودية أصبحوا حطباً للحروب التي حولنا، في العراق من قبل, ثم الآن في سورية، وهذه الحلقات كانت عبارة عن رسالة كي يتنبه أبناؤنا ويعرفوا الحق، وهناك من المضللين من السوريين والمشايخ من يجنّدون أبناء الناس، بينما لا يبعثون أبناءهم لهذه الحروب". وللتأكيد فقط، هذا التصريح الأخير كان بعد بث حلقات سجناء القاعدة وقبل الحلقة الأخيرة الشهيرة التي استضاف فيها أهالي الشباب السعوديين الذين سافروا لسورية. وهي الحلقة التي أثارت الكثير من الجدل حول موقف الشريان من بعض الدعاة والقنوات الفضائية إضافة إلى الشبكات الاجتماعية وعلى رأسها "تويتر"، حيث أشار إلى هذه القنوات ولهؤلاء الدعاة بالاسم واصفًا إياهم بلغة ساخرة بـ "أبطال تويتر".
من يتتبع سيرة داود الشريان، تنقله ومواقفه المختلفة والمتباينة، وما تعرض له في مراحل مختلفة من حياته الصحافية من إيقاف ومنع، يُدرك أنه بالنسبة للآخرين صحافي "إشكالي" منذ البدء, وهذا الأمر يبدو فيه وكأنه خصلة وطبع أكثر منه تصنعًا.
فما يعتقده البعض نجاحًا يعود لميزة نابعة من قدرته على التمثيل أو من علاقاته الشخصية فقط. يراه الشريان في لقائه مع موقع "إيلاف" الإلكتروني عام 2006 وقبل أن يحظى بهذه الجماهيرية، أنه نتيجة لمعارك خاضها وزملاؤه الذين يؤمنون بحرية الإعلام على مدى 30 عاما لزيادة قائمة المسموحات. فالإعلام في السعودية - والحديث للشريان ـ لا توجد به قائمة ممنوعات، بل قائمة مسموحات. لكن يبقى السؤال بالنسبة إلى الشريان وغيره من الإعلاميين: من يستثمرها بالشكل الجيد والمطلوب.