لوك فيري .. الفيلسوف الذي أصبح وزيراً للتربية
لم تتوقف فرنسا عند نخبة الستينيات، إذ ظهر في الثمانينيات من يراجع لها أفكارها الستينية. وهنا نتحدث عن "التنويريين الفرنسيين الجدد" أو "الفلاسفة الجدد" وهو تيار جاد وعصري يعمل على تجاوز فلاسفة الستينيات، وقد كسب أخيراً الكثير من الاعتراف والتقدير داخل فرنسا وخارجها. ومن رموزه البارزة التي لقيت كتاباتها إقبالاً شديداً لدى عامّة القراء، أندري كونت سبونفيل، وبسكال بروكنر، ولوك فيري.
لوك فيري هو أحد أشهر الفلاسفة الجدد. ويرى أن التنوير لم يأخذ شكلاً فلسفياً سوى مع الفلاسفة الألمان. ويضيف أنه على الرغم من أننا اعتدنا على اعتبار "فولتير" و"مونتسكيو" و"ديدرو" فلاسفة. إلا أنهم ليسوا بالمعنى نفسه عندما نتحدث عن الفلاسفة الألمان، خاصة كانط والفلاسفة القريبين من فلسفته. أما مأخذ فيري وغيره من الفلاسفة الجدد على الفلسفة الفرنسية المتأثرة بماركس وفرويد ونيتشه وهيدغر، فيكمن في كون هذه الفلسفة حاولت القطيعة مع الدين تماماً وإلغائه من المعادلة التنويرية، بينما فلسفة كانط عملت على علمنة الدين المسيحي، وهذا ما يرى فيه الفلاسفة الجدد ومنهم فيري الكثير من الواقعية.
إذن، نحن أمام موقفين مختلفين تجاه الدين والثورات، بين "اليساريين" والفلاسفة الجدد. فبينما اليساريون يرون القطيعة مع الدين ضرورة، وأن الثورات هي الطريق للإصلاح، نجد الفلاسفة الجدد ومعهم لوك فيري لا يرون ذلك. إضافة إلى اختلاف جوهري حول مركزية الإنسان. فالإنسان بحسب فيري، لدى اليساريين ليس إلا جسدا، وما هذا الجسد إلا جزءًا من الطبيعة والتاريخ.
وبالتالي فوجوده لا يحمل أي مركزية تستحق العناية، بينما الفلاسفة الجدد يؤمنون بمركزية الإنسان في هذه الحياة، وهذا ما يجعل فلسفتهم تتوجه للعامة بمختلف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية.
وهذا المنطلق الفكري الثابت في فلسفتهم هو ما يقودنا إلى مشروع "التنويريين الجدد" القائم على ضرورة تبسيط الفلسفة وتقديمها من خلال "لغة بسيطة واضحة من السهل فهمها من طرف جمهور غير متخصص، ثم البحث عن قنوات ووسائل إعلامية لنشر الفكر الفلسفي ذي الطابع التنويري وتقريبه من الجمهور العام".
ولعل أكثر من تمثّل هذا التقديم والتبسيط للفلسفة هو لوك فيري، الفيلسوف والوزير السابق للتربية، والذي يتحدث عنه أحد أساتذته قائلاً: "لقد كان الأكثر ذكاء في جيله". قبل أن يسرق الأضواء على قناة "كنال بلوس"، كان هذا الرجل، البالغ من العمر 60 عاماً، يعيش حيوات متعددة، إذ كان فيلسوفاً شاباً متألقاً للغاية، وملماً بشكل كبير بكانط، وكان له مسار مهني جيد في الجامعة. كان مجبراً على قضاء طفولته في الأرياف، في شبه قطيعة مع العالم، رغم أن والديه حرصا على تلقينه اليونانية واللاتينية. وإلى جانب شغفه بالبحث، كانت له موهبة تربوية باهرة.
بعد تخرّجه في السوربون ثم في هيدلبرج بألمانيا في أواسط السبعينيات، التحق لوك فيري بالتدريس، فدرّس الفلسفة والعلوم السياسية في جامعات فرنسية كثيرة، وبدأ نشر إنتاجه منذ 1985 بكتاب ينتقد الفكر الفلسفيّ السائد، وعنوانهُ "مقال في مناهضة الأنَسّيّة المعاصرة" ثم أصدر كتابا بعنوان "النظام الإيكولوجي الجديد" حاز جائزة ميدسيس وآخر بعنوان "الإنسان الإله أو غاية الحياة".
وكانت شهرته الحقيقية قد انطلقت عندما قام عام 1985 مع آلان رونو بنشر كتاب "الفكر 68"، حيث كان بمثابة رد قوي على من يحملون أفكاراً معادية لـ "الإنسانوية" من جهة اليسار، وهم الذين كانوا مهيمنين طيلة عقدين من الزمن على المجال الفكري الفرنسي. وفي عام 1994 اختاره فرانسوا فوري ليكون على رأس المجلس الوطني للبرامج في وزارة التعليم، ومن هنا توالت المناصب الحكومية بعيداً عن التدريس في الجامعات. ومع ذلك فهو لا يخفي اعتزازه بهذه المناصب، حيث جاء في تصريح خص به "ليبيراسيون" عام 1997: "لا أشعر بالخجل وأنا أمارس السلطة، فأنا أتعلم هنا أكثر مما أتعلمه طيلة عشر سنوات من تدريس فلسفة القانون". وكان أن تحقق له أعلى منصب عام 2002 حين أصبح وزيراً للتربية الوطنية.
ومن كتبه التي حاول من خلالها تبسيط الفلسفة كتاب "الفلسفة كما شرحتُها لابنتي"، والكتاب الأشهر "تعلم الحياة" الذي ترجمه لدار "كلمة" الدكتور سعيد الولي، وفيه يتوجّه فيري إلى الأجيال الشابّة، مستعرضاً المراحل الكبرى التي قطعها التفكير الفلسفي منذ ظهوره في عهد الإغريق حتى اليوم. وفي الكتاب ذاته يخلص فيري إلى القول: "إن الفلسفة ليست فنّ الأسئلة كما يُشاع، وإنّما هي في الأساس فنّ الأجوبة".
فبرأيه، أن إنسان هذا العصر، في ظل هذه المتغيرات الاجتماعية والتكنولوجية المتسارعة، وهذه التقلّبات السياسية والاقتصادية المتتابعة، يصبح عُرضةً للشكوك والظنون، فيقع تحت تهديد مخاوف كثيرة، نفسية واجتماعية، تقلقه وتفسد عليه حياته واطمئنانه. ولذلك، يذكّرنا فيري بما انتهى إليه الفلاسفة اليونانيون منذ القدم، وهو أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا حياة سعيدة إذا كان الخوف يسكنه، لأنه في تلك الحالة سيكون أسير الحنين والتمنّي، أي حبّ الماضي وحبّ المستقبل، وسيتعذر عليه عندئذ اغتنام الحاضر.
وفي مناظرة كانت بينه وبين المفكر أندريه كومت يوضح فيري فكرته السابقة مع التمثيل إذ يقول، إن الناس في هذه المجتمعات الحديثة مهووسون بالمستقبل إلى درجة أن الشيخوخة غدت بالنسبة لهم وباء عادة ما تتم مكافحته بواسطة مستحضرات التجميل وأحياناً بوسائل أخرى. والحال أن الشيخوخة إنما هي حكمة، ما دامت تجمع في الآن الواحد ما بين المعرفة والحب. ويضيف: إن المجتمعات الحديثة تحط بشكل خطير من قيمة الشيخوخة، رغم أنها هي ما قد يفسح أمامنا آفاقاً واسعة للتفكير لو تم إعطاؤها المكانة اللائقة بها.
وأخيراً، لعلنا نلحظ أن الحكمة والحب، الأمل والحياة، هي المفردات التي تتكرر كثيراً في كتب وحوارات "التنويريين" الجدد عموماً ولوك فيري خصوصاً، وكأنها ثورة على مفردات الثورة واليأس والعدم، التي تبنّاها "اليسار الفرنسي" لعقود طويلة، وهذا ما لا ينكره لوك فيري، بل يذكره بكل وضوح في حوار مع "لوموند" الفرنسية حين يؤكد أن غاية الفلسفة هي الحكمة، والحكيم هو الذي لم يعد يخاف من الموت وهو القادر على التآلف مع الكينونة والحاضر، فحياة ناجحة لكائن هالك أفضل من حياة فاشلة لكائن خالد.