بقايا الماضي الجميل (2 من 2)

صديقي الرابع هو إبراهيم الذي كان ابن عامل سافر إلى حيث النفط. اشتغل في كل شيء، حتى واتته الفرصة عندما طلبت الشركة التي يعمل فيها البحث عن مورد لمواد النظافة. ذهب أبو إبراهيم لصديقه الأجنبي الذي يملك دكاناً في السوق وشجعه لعرض أسعاره على الشركة التي قبلتها، وأصبح الرجل مورداً للشركة ويشاركه أبو إبراهيم سراً. تحسنت أحوال أبو إبراهيم فتزوج من ابنة صديقه التاجر التي سلبه جمالها.
تعلم إبراهيم من أمه الكثير، ومن جده أكثر. تعلم ألا يتكبر على أي إنسان، لأنه يمكن أن يأتي بالأرباح أقل الأشخاص في عينيك، كما حدث مع أبيه وجده. تعلم إبراهيم، وعندما تخرج اقترح عليه خاله أن يعمل في مجال التسويق والفنادق، ففعل. زادت أرباح إبراهيم يوماً بعد يوم، لكنه ظل يؤمن بمبدئه الذي يحترم كل الناس ويتعلم من كل الناس. هو أكثرنا نشاطاً وحركة في التجارة، بل إنه يعرض علينا الفرصة تلو الأخرى وأغلبنا يمثل أجبن رؤوس الأموال. نحسد إبراهيم ولا نستفيد من نصحه.
أكبرنا حجماً هو سالم. يحب سالم الجميع ويحاول أن يبقي على العلاقة بيننا مستمرة. يتنازل عن كثير من رغباته وسفراته ليتواجد معنا. كنا نلجأ لسالم عندما كنا صغاراً؛ لأنه ذو بنية ويخاف منه الكثير من "عيال" الحي. دافع عنا كثيراً، وكان يحاول دائماً أن نكون معاً، وعرض علينا أكثر من مرة أن نشترك في دورات الدفاع عن النفس لنقاوم في تلك الفترة التي كانت فيها "المضاربات" يومية بين صغار السن في الحي.
استمر سالم في اعتقاده الخاطئ أننا ضعاف ونحتاج إليه، فبقي يوجه إلينا النصائح مرة تلو مرة. حتى بعد أن تزوجنا وأنجبنا الأولاد والبنات، تجده يتدخل في كل شيء. كلنا نحب سالم، لكن لدينا أولويات مختلفة اليوم. ما زال سالم يرانا أطفالاً خائفين، ويتمنى أن نستمر في اللجوء إليه رغم أننا نجد في ذلك تقليلاً من قيمتنا.
أنا سادس هذه الشلة العجيبة، عجيبة في تركيبتها، وعجيبة في بقائها واستمرار لقاءاتها. كنت دائماً أشعر بأنني غريب عليهم. فهناك التجار ولست بتاجر، وهناك المشاغبون ولست بمشاغب، وهناك الضعفاء ولست بضعيف. لكن أكثر من يستفزني هو سالم بمحاولاته المستمرة للتدخل في شؤوني. سؤاله المستمر عن برنامجي اليومي، وسبب غيابي في اجتماع الشهر الماضي، وسبب انشغال خطي الهاتفي، كل هذا يستفزني ويدفعني مرة بعد أخرى للتغيب عن الجلسات التي تجمعنا.
أيام الجامعة كنا نجتمع كل أسبوع، استمر الحال والحماس للقاء طول مدة شبابنا، ثم تزوجنا واحداً بعد الآخر. كنا نسخر من كل من يتزوج؛ لأنه يبدأ في التملص من الاجتماعات. بعد ملل، قررنا أن يصبح اجتماعنا شهرياً. لكن ضغط " الداخلية" كما نسميها، أثر في قدرتنا على الاجتماع، حتى إن إبراهيم اقترح أن نحاول أن نكون لزوجاتنا جمعة مثل لقاءاتنا لنحافظ على الحماس الموجود لدينا، لكنهن افترقن بعد ثلاثة لقاءات فقط.
في البداية، كانت كل واحدة منهن تحاول أن تغيظ الأخرى. ثم في حركة غريبة بدأت كل واحدة منهن في المطالبة بمثل ما لدى رفيقتها، خصوصاً زوجة إبراهيم التي كانت تقدم لهن الموائد وتلبس الألماس، وتبتسم في وجه كل واحدة. عندها قررنا نحن أن اجتماع العائلات أصبح نقمة، فقررنا أن نبعدهن عن بعضهن. وهو ما حدث.
أثر هذا في علاقتنا، نجتمع اليوم كل سنة. أشعر أن المجموعة تغيرت أفكارهم. أصبح الإبقاء على هذه "الشلة" صعباً. التثاقل عن الحضور، ومحاولات تسيير النقاش، الغيرة التي أنتجتها تلك التجربة المريرة عندما أدخلنا العائلات في جمعتنا.
شخصياً أعتقد أن اجتماعاتنا لم تعد ذات جدوى. فنحن نتحدث ونعيد في الماضي, ليس هناك من فائدة أراها في هذه المجموعة.
جاء أخيرا صديق من أيام الدراسة أجد معه الراحة، يقدرني ويحترم فكري ولا يطالبني بأكثر مما أطيق. قدم لي الصديق فرصاً اقتصادية كسبت منها الكثير. ليس هناك ما يشعرني بالراحة الآن مع مجموعة حينا البسيطة التي كانت تجتمع على فنجان الشاي، وتنتظر الفسحة بين الحصص للقاء والاستمتاع ومشاركة كل شيء، لكنه لا يتجاوز كونه بقايا ماض جميل.
مشكلتي مع صديقي الجديد أنني لا أذكر عن علاقتي معه أيام الدراسة أي شيء، يحرجني عندما يسترجع أحداثاً لا أذكرها. قد يكون عقلي الباطن هو الذي يدفعني لنسيان تلك الذكريات وصاحبها، لكن لماذا؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي