الحكومة وتضخيم المسؤولية
سبق لي الكتابة عن العلاقة بين الدولة والحكومة وأهمية فك الارتباط الوظيفي والتداخل الاختصاصي بينهما وأهمية التأكيد على أن الدولة هي المعنية بالتشريع والسياسات وسن الأنظمة ومراقبة التنفيذ، والحكومة مع بقية قطاعات الدولة الأخرى مثل القطاع الخاص والإعلامي والأكاديمي والمجتمع المدني مهمتها تنفيذ السياسات والأنظمة التي تعتمدها الدولة بحيث يعمل الجميع ضمن إطار تشريعي وإداري وتوجهات تنموية مشتركة كبر أو صغر الهم أو الشأن التنموي، كما سبق التأكيد على أهمية عدم هيمنة أي قطاع من قطاعات الدولة على الآخر، وضربت في ذلك بعض الأمثلة، فعندما هيمن القطاع الخاص على سياسات وتوجهات الدول الغربية مع الولايات المتحدة كاد الاقتصاد العالمي أن ينهار مع أن الأمور ما زالت في حالة ترنح والعديد من المواطنين في تلك الدول فقدوا أعمالهم والكثير من مدخراتهم ويعيشون الآن حالة من الفوضى الاجتماعية والأسرية والاقتصادية والمالية ما الله بها عليم، كما أن الآلاف من الشركات والمؤسسات أفلست وأغلقت أبوابها، وفي المقابل عندما هيمن القطاع أو الجهاز الحكومي في عالمنا العربي شاهدنا ونشاهد ما يجري في العديد من الدول العربية التي لا يعلم آثارها السلبية ونهايتها غير الله.
إن المراقب الأمين اليوم للوضع في المملكة وصدور العديد من الأوامر والأنظمة والتعليمات التي لا تخرج عن رؤية واحدة لمستقبل الوطن ككل وتحقق الاستقرار والتكامل والاستدامة بين مختلف قطاعات الدولة الخمسة (الحكومة والقطاع الخاص، والإعلامي، والمجتمع المدني والأكاديمي)، وأغلبية ما يصدر يصب في مصلحة المزيد من تضخيم مسؤولية وهيمنة الحكومة مع أن بعض تلك الأوامر والتعليمات والأنظمة تتعارض فيما بينها إلا أنها تزيد من تضخيم حجم الحكومة على حساب باقي قطاعات الدولة وفي الوقت نفسه تضعف قدرة الدولة والقيادات المرتبطة بالدولة على القيام بواجبها وفق النظام المفترض أن المملكة تقوم عليه وتعزز من مسؤوليات القيادة بها ولا تقودها نحو الأنظمة الوضعية التي تضعف السلطة وتقوي من البيروقراطية وكثرة الأخذ والرد دون النظر في حاجات المواطنين والعمل على سرعة حلها وإنجازها، والشواهد في هذا المجال كثيرة، وربما أتطرق لها بشيء من التفصيل في مقالات مقبلة.
إن الأساس الذي بني عليه نظام الحكم ونظام المناطق في المملكة ينطلق من مفهوم السياسة الشرعية التي بنيت على النظرة الإسلامية للحكم وصلاحيات ومسؤوليات الحاكم ونوابه أو ممثليه في مختلف المقاطعات أو المناطق، وأن الأساس في هذه الأنظمة عدم قيادة البلد نحو المفهوم الحرفي للدولة المدنية وهيمنة مفهوم الخدمة المدنية على أداء الدولة الذي يفترض أن يكون فيه نظام ينظم عمل الحكومة وليس الدولة، وما نشاهده اليوم أن جميع مسؤولي الحكومة والدولة أصبحوا موظفي خدمة مدنية بالمفهوم الضيق، وهو ما حول أمراء المناطق إلى موظفين ينفذون الأنظمة أو ربما حتى لا يرتبط بهم أي أمر ولم يعد لهم دور تمثيل الملك في مناطقهم وتحولت أعمالهم إلى أعمال روتينية لا تخدم حماية حقوق المواطن والمقيم ولا تقوّم المعوج من الأمور الإدارية التي أصبحت عرفا في كل الإدارات الحكومية وفي بقية قطاعات الدولة، وأصبح علاج أي أمر هو العودة إلى الأجهزة المركزية في القرار والاعتماد والتنفيذ والتقويم والمحاسبة، وهو ما أفقدنا القدرة على الارتقاء بالأعمال وأدى إلى بعثرة الجهود وهو ما يقود اليوم إلى فقد الحكومة والدولة هيبتيهما وأدى إلى تجرؤ الجميع على عمل كل ما يؤدي إلى المزيد من الفساد في ظل زيادة عدد الأجهزة التي تحاربه، كما أدى إلى الكثير من التجاوزات الأمنية للمواطنين والتعدي على رجال الأمن وعلى كل من يقف في طريق تمردهم وتعديهم على الأراضي وغيرها باستخدام السلاح وإطلاق النار، وهو أمر لم يكن معهودا في حقبة ما قبل تضخم الأنظمة وتفتيت المسؤوليات وغياب المرجعية الإدارية المحلية مثلاً.
إن القارئ المتأني للتغيرات التنظيمية الإدارية في المملكة وتعزيز المزيد من السلطة الإدارية الحكومية المركزية وزيادة الفجوة بين رأس الدولة والقيادات الإدارية العليا في المناطق سيقود إلى تهميش دورها ويقود البناء المؤسسي في البلد نحو المفهوم المقزم للدولة المدنية، وهو النظام المطبق في الدول الغربية والولايات المتحدة، الذي جعل من رئيس الولايات المتحدة لعبة في أيدي أعضاء الكونجرس وغيره من المنظمات الحكومية وغير الحكومية بحيث لا يستطيع قيادة الدولة، وأدى ذلك إلى تفتيت سلطته وصلاحياته، وهذا مربط الفرس الذي يقلقني عندما عنونت المقال بعنوان "الحكومة وتضخيم المسؤولية" والمعنى هنا أن الموظف الصغير في أي إدارة حكومية هو المتنفذ والآمر الناهي في مقابل دور أمير المنطقة أو دور المحافظين ورؤساء المراكز.
النظرة الثاقبة لهذا الأمر وملاحظة محاولة سحب السلطة والهيبة من القيادات العليا وتمييع ذلك من خلال أنظمة وتعليمات وإدارات وهيئات وغيرها يوجب إعادة النظر فيما صدر وسيصدر من توجهات مستقبلية، وهذا الأمر ربما يغضب البعض ممن يقودون هذا التغيير غير الحميد، لكن أمانة المسؤولية وتجربة المعايشة وتقويم الأمر تتطلب الإيضاح وإن كانت مثل هذه المساحة للمقال لا تسمح بالتوسع، لكن القليل المفيد مفيد. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى وبارك الله في الجهود التي تعمل من أجل وطن سعودي الانتماء، عربي اللسان، إسلامي المعتقد وعالمي الطموح.