قنوات التفجير
تابعت فيلم Bowling for Columbine إلى آخر ثانية برغم عدم شغفي بالأفلام الوثائقية، إلا أن هذا الفيلم كان مليئاً بالمشاهد والقصص التي تفسر العنف الذي يعيشه المجتمع الأمريكي. حالة وصلت لدرجة أن طفلاً لم يصل عمره إلى سبع سنوات أطلق النار من مسدس خاله على طفلة وأرداها.
زار منتج الفيلم أكثر من عشر ولايات أمريكية وكندا ليبحث في مفهوم مهم جداً، وهو أين منبع العنف ''الإرهاب'' الذي تعيشه الولايات المتحدة، والشك في نوايا أي شخص يحاول دخول أمريكا أو يتجول في مدنها أو يمشي حتى في شوارعها من غير أهلها. تحدث المنتج مع علماء نفس واجتماع ورجال أعمال وضحايا وممثلي شركات وحتى ممثل مشهور يرأس جمعية الأسلحة النارية الأمريكية.
تابع الأحداث التي عاشتها الولايات المتحدة ونشرات الأخبار والبرامج التلفزيونية وقارنها بالدول الأقل عنفاً. حاول أن يربط بين تلك المعلومات وسلوك الشعب الأمريكي الذي يملك كل مواطن فيه سلاحاً نارياً تقريباً، والنسبة الفعلية هي 88 لكل 100 شخص. خلص الفيلم إلى أن مجموعات المصالح الخاصة مثل شركات إنتاج الأسلحة والإعلام مغذِّيان أساسيان للخوف الذي يُوَلِّدُ البحث عن الأمان في غلق الأبواب واقتناء الأسلحة النارية.
تبدأ نشرات الأخبار في القنوات الأمريكية بطريقة مختلفة عن أي مكان في العالم، يتحدث المراسلون عن حوادث القتل والابتزاز والاغتصاب والتفجير والمطاردات الشرطية. تتوجه عربات النقل التلفزيوني وطائرات الهيلكوبتر بسرعة للحصول على السبق. في حادثة ''ثانوية كولومباين'' التي قتل فيها 12 طالباً ومعلمة وأصيب 24، وصلت أولى حافلات النقل التلفزيوني خلال مدة لم تتجاوز 15 دقيقة. ليبدأ بث مستمر لعدة أيام.
تحليلات ودراسات وخبراء يستمرون في تغذية الخوف والكراهية لدى الناس كما حدث في أكثر من تفجير. الهدف الأساس هو كسب المال فهذا ما تعيش عليه القنوات التلفزيونية، وبنى الإمبراطوريات الإعلامية في أقوى دولة في العالم.
لوثة ارتباط الإعلام بالدماء والقتل ليست جديدة، ولكنها بدأت تأخذ منحىً خطيراً في السنوات الأخيرة، فالحرب في أفغانستان صدَّرت هذه العلاقة إلينا، ثم انتقلت العدوى لكل دول العالم لتصبح حوادث القتل هي المتسيدة لنشرات الأخبار. أنتج هذا التوجه الخطير ''قنوات التفجير''.
تغذي قنوات التفجير النزعة العدائية لدى الناس، وتبحث في الفروق التي تضمن تباعدهم، وتركز على الحوادث التاريخية التي تتسم بالدموية والكراهية، وتشرع أبوابها لمن ينشرون هذه المفاهيم ويبرعون في اكتشاف ''النصف الفارغ من الكوب''.
عمل كثير من هؤلاء في الظلام عندما كان المجتمع متوازناً. لم تكن لديهم الجرأة على قول كلمة عندما كانت الشوارع والمدارس والمساجد عبارة عن لوحة بانورامية تجمع كل أطياف المجتمع على الحب والسلام واحترام الاختلاف الفكري أو المذهبي أو المناطقي. نرى وجوهاً كثيرة اليوم تجاوز عمر بعض أصحابها الستين لم نعرفهم طوال سنوات حياتنا، أو نقرأ عنهم، أو يشهد لهم أحد بعلم أو فقه أو خبرة مفيدة.
انتشر التفجير في شوارع العراق، كل محافظة ومدينة وقرية عانت من ذلك المفسد المبين. لم يتمكن العقلاء من قتل تلك المفاهيم الفاسدة أو درء خطرها أو حتى مقاومتها، حتى أتت على الجميع وأصبحت صناعة تعيش عليها منظمات وشركات وأشخاص وقنوات تلفزيونية. لقد أصبحت عملية منظمة من الصعب التعامل معها أو التخلص منها.
تجاوز الحال العراق، ليتوجه بمفاهيم الكراهية نفسها لدول أخرى سواء كانت لبنان أو سورية أو البحرين أو ليبيا أو اليمن، لم يحاول أحد من الفرقاء أن يتعلم من التجارب الشنيعة التي عاشها ويعيشها إخواننا في العراق الذين كانوا على قمة الهرم في الصناعة والزراعة والتعليم والصحة، وفقدوا كل ذلك بسبب الانتماء غير العقلاني لمدارس فكرية منحرفة آثرت القتل على التصالح والتعايش بين المختلفين.
لعل التفجير الإرهابي الذي طال مستشفى العرضي في صنعاء ووقع نتيجته 56 قتيلاً وأكثر من 150 جريحا يكون ناقوساً جديداً يدفع بالجميع للتوقف عن الحرب التلفزيونية التي ينتج عنها تحرك أشخاص أو مجموعات إرهابية ضد المواطنين الأبرياء.
شاهدت في قناة تلفزيونية مذيعاً يهدد مدير المستشفى والمسؤولين فيه إن هم لم يتوقفوا عن سلوك معين بأن ينتقم منهم، ويلقنهم درساً لا ينسونه. ذُكِرَ أن الحلقة أذيعت قبل أسبوع من الحادث الإرهابي.
إن استمرار هذه القناة، وترك هذا الشخص وعدم التحقيق معه للتعرف على علاقته بهذا العمل الإرهابي، سيؤدي إلى قتل مزيد من المدنيين الأبرياء وقد يدفع إلى حرب أهلية غايتها قتل المخالف لإلغاء فكره، وهو ما لم يحدث في العراق ولن يحدث. فالتاريخ شاهد على أن الفكر يبقى حتى وإن قتل حاملوه الذين يعلنون تبنيه.