توجيه السلوك بآلية العقل الجمعي
ما المقصود بالعقل الجمعي؟ لسنا بصدد إعطاء تعريف نظري للعقل الجمعي بقدر ما نحن بصدد عرض للموضوع من ناحية عملية وسلوكية تربطنا بالحياة العامة التي تمر على مشاهدنا بصورة يومية وبشكل متكرر. ولتبسيط الموضوع نضرب مثالاً، إذ قد يشاهد أحدنا جمهوراً من الناس يركضون باتجاه معين ولو قدر له واستوقف بعضهم وسألهم لماذا يركضون بهذا الاتجاه، لكانت الإجابة مفاجئة ومحيرة، إذ قد تكون الإجابة لا أدري رأيت الناس يركضون فركضت وراءهم!
عجباً رأوا غيرهم يتصرف بهذه الطريقة فتبعوه، وقد يكون أول من بدأ الركض واحد لأي سبب من الأسباب، فقد يكون استشعر خطراً في المكان أو قد يكون متأخراً على موعد فكان هذا السلوك محفزاً لمن حوله لفعل ما فعل. السؤال الجوهري: أين عقول هؤلاء ولماذا لم يفكروا ويتأملوا الموقف، خاصة أنه لا يوجد في ظاهر الأمر ما يثير الفزع، ومن ثم يأتي القرار بفعل الشيء نفسه من عدم ذلك؟ تفسير ذلك يتم من خلال أن العقل في مثل هذا الموقف يصاب بما يشبه الشلل المؤقت الذي يجعل العقل غير قادر على العمل والتركيز والتحليل، لذا فأبسط شيء يمليه الموقف أن يفعل المرء كالآخرين.
العقل الجمعي وآلية عمله تظهر بصورة قوية في أوقات الأزمات والشدائد كالحروب والاضطرابات التي قد تمر بها بعض المجتمعات، وسبب ذلك أن الميكانزمات الدفاعية المعنية باستشعار المخاطر الممكن حدوثها وحماية الفرد منها تكون هي الأكثر استعداداً والأسرع حضوراً واستجابةً، ذلك أن الموقف الغامض يفسره العقل بصورة سريعة وغير معمقة، ومن ثم يحدث التصرف وفق تصرف الآخرين.
العقل الجمعي يناظر عقل القطيع، فالأغلبية يفعلون دونما معرفة للأسباب والدوافع، وقد يكون المحرض على هذا الفعل شخص له أهدافه الشخصية والخاصة، وهو معذور في ذلك.
تطبيقات العقل الجمعي تظهر في صور عدة، منها ما يحدث في أماكن التجمعات كالمدارس، أو عندما ينزل الناس إلى الشوارع في مظاهرات، فمن الممكن اندساس أفراد داخل المظاهرات يقدمون على تصرفات تدفع العموم لفعل فعلهم كأن يهربوا ومن ثم يتفرق الجمع، أو قد يقدمون على تكسير المحال وإشعال النار فيها ويفعل المحيطون بهم مثل فعلهم.
إدراك من يقدر لهم التعامل مع التصرفات الناتجة بسبب العقل الجمعي كمديري المدارس والمعلمين ورجال الأمن يمنعهم من الوقوع فيه ويجعلهم أكثر قدرة على ضبط الموقف وعدم انزلاقه إلى ما هو أسوأ كالتدافع أو إشعال النيران، لقد ورد في الحديث الشريف قوله - صلى الله عليه وسلم: "لا يكن أحدكم إمعة يقول ما يقولون ويفعل ما يفعلون".
العقل الجمعي ليس سيئاً في كل الظروف والأحوال، إذ يمكن توظيفه في الأعمال الخيرة التي تنعكس آثارها الإيجابية على المجتمع، مثل تشجيع حشد من الناس على التبرع لمشروع خيري أو نظافة مكان، أو إصلاح شيء يحتاج إلى جهد كثير من الناس وليس إلى مهارات خاصة، فالمعلم مع طلابه يمكن أن يوظفه لتغيير سلوكهم أو بعضهم إلى ما هو أفضل وذلك باستغلال المواقف والظروف والتعرف على الطلاب ذوي التأثير بهدف صياغة العقل الجمعي الحميد.
خلال الأعمال الغوغائية التي أقدمت عليها العمالة الوافدة غير النظامية، ولا شك لدي أن العقل الجمعي كان له حضوره وتم توظيفه من قياديي هذه المجموعات والمؤثرين فيهم بهدف الإقدام على تصرفات تثير التعاطف من الآخرين أو تخيف من يتعامل معهم، كما أنه كان بإمكان الجهات الأمنية استغلال وتوظيف العقل الجمعي كأساس نفسي وسلوكي عند التعامل معهم بهدف التأثير فيهم وتفريقهم، إذ يمكن استقطاب قيادييهم وجعلهم يتصرفون بصورة هادئة مطيعة ومستجيبة لمطالب الجهات الأمنية.