الهلال الخصيب يتصدع تحت ضغط الصراع الطائفي
عندما بدأ العرب التدفق إلى الشوارع لتحدي الحكام الطغاة قبل نحو ثلاث سنوات، عمت العالم بأكمله موجة من الفرح، لأن هؤلاء المواطنين تجرؤوا أخيراً وأصبحوا يحلمون بأنهم في طريقهم إلى القرن الحادي والعشرين.
لكن يبدو الآن كما لو أنهم عادوا إلى الخلف قرنا من الزمان أو نحوه، أو عادوا إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، عندما كانت الأراضي العربية مفككة وتحت سلطة الإمبراطورية العثمانية. وبعد ذلك كانت المكائد والمؤامرات الإمبريالية من بريطانيا وفرنسا هي التي قطعت أراضيهم ومستقبلهم. والآن تستعر حرب أهلية في سورية، وقد بدأت تنتشر إلى البلدان المجاورة، مهددة بتجريف حدود ما بعد الإمبراطورية العثمانية.
هل بدأت دول الشرق الأدنى تتفكك، خصوصاً على طول خطوط الصدع الفاصلة بين المسلمين السنة والشيعة، الممتدة من بيروت إلى بغداد؟ وهل أوشكت حدود الهلال الخصيب على التشظي، مفرخة دولاً على شاكلة قطع متناثرة مثلما حدث بعد الحقبة السوفياتية؟
كانت اتفاقية سايكس - بيكو هي أول ما رسم هذه الحدود في عام 1916، حين كان الهدف إنهاء المنافسة الإنجليزية ـ الفرنسية على بلدان الهلال الخصيب التي كان يمكن أن تؤدي إلى الإضرار بالتحالف المضاد لألمانيا. وعمل الخط المشهور الذي رُسِم على الرمال الممتدة من فلسطين على البحر المتوسط إلى جبال زاجروس على حدود العراق مع إيران، على تقطيع سورية الكبرى وبلاد ما بين النهرين إلى مناطق واقعة تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني. وهي الخطوط التي وافقت عليها فيما بعد عصبة الأمم المتحدة. اعتبرت هذه مناطق نفوذ تم تفصيلها خصيصاً لإمبراطوريات أوروبا الشرقية وليس لتصبح في المستقبل دولاً متماسكة عضوياً، ناهيك عن أن يكون ذلك في سبيل استقلال عموم العالم العربي الذي لوحت به بريطانيا لإغراء العرب على القيام بثورة ضد حلفاء ألمانيا العثمانيين.
والفوضى الوحشية في سورية التي يرافقها تقطيع للأراضي داخل وخارج حدودها، أحدثت بالفعل نوعاً من الاختزال الجيوسياسي بين العارفين، مفادة نهاية سايكس ـ بيكو. لكن ما يجري الآن أكثر تعلقاً فيما يبدو، بطابع الفوضى العارمة، وهو أمر يتبدى بوضوح في التفجير الانتحاري الثنائي الذي ضرب السفارة الإيرانية في بيروت، الواقعة على البحر الأبيض المتوسط.
إن القوة المحركة لكل هذا هي الصراع ذي الأذرع الطويلة الذي لا يعرف حدوداً بين الشيعة السنة، وهو صراع ينفجر عبر حدود اعتباطية رسمها البريطانيون والفرنسيون. وبعضهم يرى في هذا بالدرجة الأولى صراعاً قائماً من أجل السيطرة الإقليمية. وهذا جزء من القصة، لكنه يقصر عن تفسير الوحشية الدموية التي تصاحب الحرب العرقية الطائفية التي لم يشاهد لها مثيل في الحروب التي أعقبت تقسيم يوغسلافيا.
حدث هذا أولاً في الحرب الأهلية التي دارت في لبنان في الفترة 1975 ـ 1990، ثم انتقل بعد ذلك إلى العراق، والآن في سورية التي تهتز تحت صراع عرقي طائفي. لكن ما كان يعتبر في السابق حبكة فرعية سنية شيعية في هذه الدراما - التي تعود أصولها إلى الانقسام الذي حدث للمسلمين في القرن السابع - انفجر اليوم ليصبح نقطة الاهتمام الرئيسية بعد اجتياح الولايات المتحدة للعراق عام 2003. فقد أطلق ذلك قوة الأقلية الشيعية داخل الإسلام - وهم أكثرية في العراق - في بلد يقع في قلب العالم العربي لأول مرة منذ سقوط الدولة الشيعية الفاطمية القائمة على الهرطقة عام 1171. ومال توازن القوى الإقليمية لصالح الجمهورية الإسلامية في إيران - حيث طموحات الشيعة والفرس في منافسة إسرائيل في السيطرة على المنطقة - التي أججت صراعاً سنياً شيعياً بقي كامنا تحت الرماد لألف سنة. وانحل العراق لينخرط في حمام دم طائفي، أدى إلى طحن أقليات مثل المجتمعات المسيحية القديمة التي وقعت في براثن الهويات الجريحة للسنة والشيعة. أما سورية الشبيهة بهذا التركيب العرقي الطائفي، فتتجه لسلوك الطريق نفسه، مطعمة بالانقسام السني الشيعي نفسه والسباق الإقليمي نحو ما بدا أنه صراع عربي آخر ضد الاستبداد. كما يبدو أن العراق وسورية فقدتا أي إحساس بحكاية الرابطة القومية.
أصبح العراق الذي هو من الناحية الاسمية فيدرالية وهمية سائبة، مقسماً من الناحية العملية إلى ثلاث كتل، هي الأكراد شبه المستقلين في الشمال، والسنة في الوسط، والشيعة في الجنوب. أما بغداد فقد أصبحت بعد مذابح 2006 ـ 2008 شبيهة جداً بالمدينة الشيعية.
وتتفتت سورية بطريقة أكثر فوضوية بكثير. ولا يزال نظام بشار الأسد متماسكا، لكنه فقد أجزاء في الشمال وفي الشمال الشرقي من البلاد للأكراد، وجزءاً كبيراً من شرق سورية للثوار السنة. أما الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد، وهي فرع من الشيعة الباطنية، فقد تحصنت على طول الشاطئ الشمالي الشرقي وفي الجبال، وهي المناطق نفسها التي حصلوا فيها على الحكم الذاتي لفترة قصيرة في الثلاثينيات، أثناء الحكم الفرنسي.
وفي الصيف الماضي انضم للقتال حليف إيران، حزب الله اللبناني شبه العسكري، لإنقاذ الأسد وليعيد فتح الطريق الواصل بين دمشق والساحل. والآن أصبحت معاقل العلويين تمتد بالفعل لتتصل بمعاقل الحزب القوية في وادي البقاع اللبناني، القريب من المعركة الجارية حالياً بين السنة والشيعة في جبال القلمون. ولكن هذا ليس كل شيء.
فالمنطقة العابرة للحدود بين نهري الفرات ودجلة، المعروفة باسم الجزيرة، بدأت تتحول إلى إمارة سنية، حيث يعمل السنة غير الموالين للحكومة على إقامة روابط مع الثوار السنة في شرق سورية، الواقعين تحت التأثير الخبيث للمجموعات الجهادية المرتبطة بالقاعدة، التي يُرجح أن تُشكل كابوساً استراتيجياُ للمنطقة. أما أكراد سورية الذين يسيطرون بحكم الأمر الواقع على ما يسمونه كردستان الغربية، فبدأوا بإقامة روابط مع حكومة إقليم كردستان ذات الحكم الذاتي في العراق. وبدأ شبح كردستان الكبرى يفزع تركيا، والأكراد الذين يبلغ عددهم 25 مليون نسمة ليس لهم دولة خاصة بهم وينتشرون في سورية والعراق وتركيا وإيران. أما أنقرة، كجزء من جهودها لإنهاء حركة تمرد كردية مستمرة منذ 30 سنة، فتحاول من ناحيتها جذب الأكراد السوريين والعراقيين (وأغلبهم سنة) إلى نوع من المجال التركي الاقتصادي والثقافي. كذلك إيران التي حافظت لفترة طويلة على روابط مع مجموعات محلية، تغازل هي الأخرى الأكراد.
إن المرء ليشعر بالإغراء لأن يرى في ذلك عودة إلى نظام الملل – وهو نظام سائب للمناطق العثمانية يسمح بموجبه للأشخاص المقيمين فيها بدرجة من الاستقلالية والتماسك الديني والعرقي في مقابل الولاء للإمبراطورية والاستقلال ودفع الضرائب المنتظمة – لكن لا يوجد قدر يذكر من الاستقرار والولاء للعمل بموجبه.
وعندما تنهار في النهاية جميع مؤسسات الدولة من الناحية العملية، تدخل اللغة اللاواعية للانتماءات الطائفية وتبدأ الطوائف بالتخندق وراء معسكرات خاصة بها. هذا ما حدث بالضبط في لبنان الذي انقسم إلى أجزاء متجانسة نسبياً عبر الريف وداخل بيروت التي أصبحت مدينة تتألف من مجموعة من المعازل (حارات الأقليات) بالطريقة نفسها التي هي عليها الآن دمشق وبغداد.
وعلى الأرجح لن تُزال الصورة الكبيرة لبلدان الهلال الخصيب التي صممها الاستعمار الأوروبي بسرعة وبشكل ونهائي، ولن يحدث أكثر من إعادة تشكيل في المجال الوطني وفي بعض الحالات عبور لمناطق حدودية، إلى جانب تهجير للسكان. ومثال على ذلك لبنان الذي بقي تحت الاحتلال الإسرائيلي 22 عاماً ـ انتهى عام 2000 ـ والاحتلال السوري الذي دام 29 عاماً، إلا أن الحدود الخارجية لم تتحرك مليمتراً واحداً، ولم يسْعَ أحد إلى إعادة رسم هذه الحدود.
في الوقت الذي تستمر فيه النار في الاشتعال في سورية ويجري صهر الحدود، ربما لا يكون هذا هو ما يحدث. فحين تنطلق في الوقت نفسه التهديدات الكثيرة في هذه المجتمعات المتشابكة، من الصعب معرفة ما إذا كانت النتيجة ستكون التفكك أو مجرد تشابك آخر.