ذكريات 1434هــ والمواقف التاريخية
في ساحة تايم سكوار في نيويورك يحتفل الأمريكيون بمقدم العام الجديد بطريقة خاصة جدا؛ إذ تنصب سلة مهملات عملاقة يلقي فيها أناس كثيرون أوراقهم التي كتبوا عليها ذكرياتهم الأليمة مما مر عليهم خلال السنة الماضية، فيهدفون بحركتهم هذه إلى طي صفحة العام الماضي ورمي مخلفاته وراء ظهورهم، ويسمون يومهم هذا Riddance Day، وهو يوم للتخلص أساسا من عوالق الماضي.
إن الميزة الأساس لهذا العمل كونه يفتح نافذة أكثر إشراقا على المستقبل، ويستشرف عاما أحسن من سابقه، ويبرز إيمان المشاركين فيه بالتغيير وإمكانية التحول نحو الأفضل.
ولعل الأمريكيين على وعي باحتياجهم اليوم إلى نسيان الذكريات الحزينة، فالأزمة الاقتصادية الضاربة أطنابها في الجسد الأمريكي مع تعاظم الدين الأمريكي إلى أرقام مخيفة هي بالتأكيد مخلفات يرغب كل أمريكي في نسيانها ورميها في سلة مهملات، وإن كانت استعراضية في وسط مدينة نيويورك.
في عالمنا العربي لا توجد ساحة واحدة مثل تايم سكوار، ولربما حتى في شكلها، ولا وجود لسلة مهملات نستطيع رمي ذكرياتنا السيئة فيها، ربما لأن الجرح العربي متعدد، ولا يكاد ينقضي يوم دون أن يسجل العرب في دفاتر أيامهم جروحا جديدة.
عام 1434هــ، كان عام التفتيت والتشرذم بامتياز، فما كاد ينتهي حتى كانت مصر قد دب فيها التناحر والقتل بعيدا عن أجواء كل الحوار والتعايش فيما يشهد اليمن ''حراكا'' متصاعدا لعودة حالة ما قبل الوحدة مع انتشار التوجه الإيراني في بعض مدن الشمال وما زال نزيف الدم في سورية مستمرا بسبب استمرار تضارب المصالح بين الدب الروسي والغرب، أما في فلسطين وما أدراك ما فلسطين؛ فقد زاد الحصار وانتشر الجوع والغلاء.
في عام 1434هـ، زادت لغة الفتنة بين السنّة والشيعة إلى الواجهة، وأرخت بظلالها على بلدان عدة، وبدأ يظهر من تحت الطاولة تناغم بين السياسة الأمريكية والإيرانية على حساب الخليج العربي في صفقة قد تكتمل أركانها في السنوات القريبة، كما تأكد مجددا أن الكرامة العربية تستجدي يدا من خارج رحمها كي تقدم لها المساندة، فكانت إيران أكثر الخائضين في كل الزوابع التي عرفتها المنطقة، وهو خوض طبيعي بالنظر إلى أنها دولة آخذة بمنطق القوة والمنعة، ومتمكنة من قرار محيطها الإقليمي، وهناك ازدواج بين سياسة تركيا والعالم العربي في بعض المواقف، ولذلك كل مقومات التطور في العالم العربي والإسلامي ما زالت متوقفة إن لم تكن تراجعت.
عام 1434هـــ سيكون بداية لتطورات في منطقة الخليج قد تأخذ شكلاً جديداً في الحياة الاجتماعية والسياسية سيعقبها حتماً النواحي الاقتصادية، في عام 1434هـ زادت محنة المواطن العربي في لقمة عيشه وهذه تسببت في وجود رواسب نفسية كانت سبباً من أسباب تفكك الحياة الأسرية وسفر الفتيات بحثاً عن لقمة العيش تحت وطأة الفقر ومعها انتشار للاكتئاب الوبائي في حياة الناس بعد أن باتت لغة المادة هي الكلمات التي ينطق بها كل الناس في الصباح والمساء
وحالنا اليوم وحال أيضا كثير من العرب والمسلمين اليوم كقول القائل:
حدثت قومك حقبةً فتسمعوا
والآن دور حديثهــم فتسمـــع
هجروا الكلام إلى الدموع لأنهم
وجدوا البلاغة كلها في الأدمع
حالنا في عامنا الماضي مليء بالتشرذم والانفصال العاطفي، سواء على المستوى العائلي أو الوظيفي أو المجتمعي أو الدولي.
في سالف العصر والأوان، كانت أيام العرب والمسلمين، كما يرويها لنا التاريخ، صولات وجولات من الحماسة والفروسية والبطولة، تركت لنا إرثا ضخما من الأدب والفن والحكمة الإنسانية لا يمكن تجاهله بأية حال.
ولذلك لم يكونوا في حاجة إلى ساحة في نهاية العام لحرق ذكرياتهم مع حرق الشموع أو رمي مواقفهم التاريخية مثل رمي الألعاب النارية، بل كانت ذكريات رائعة تسمو فيها معاني العزة والصدق والازدهار والتنمية وألقت بظلالها على من حولها أيضا مثل ما تفعل النافورة الراقصة في كل ساحات العالم المحتفل.
أما في أيامهم هذه، فيبدو أنهم في أشد الحاجة إلى سلة مهملات قد لا تسعها كل الساحات العربية، لنرمي فيها مجتمعين واقعا رديئا، في زمن لم يبق فيه من العربي إلا اسمه، ومن مشروع الوطن الإسلامي إلا رسمه.
وإيليا أبو ماضي يحكي أحواله وهي شبيهة بأحوالنا:
هجرت القوافي ما بنفسي ملالة
سواي، إذا اشتد الزمان ملول
ولكن عدَتني أن أقول حوادث
إذا نزلت بالطود كاد يزول
وبغّضني الأشعار أن دعاتها
كثير وأن الصادقين قليل
فما أنا في هذي الحكاية شاعر
ولكن كما قال الرواة أقول
هوى مثلما يهوي إلى الأرض كوكب
كذاك الليالي بالأنام تدول
وكان له في الدهر بطش وصولةٌ
فأمست عليه الحادثات تصول
وكان له ألفا خليل وصاحب
فأعوزه عند البلاء خليل
تفرق عنه صحبه فكأنما
به مرض أعيا الأساة وبيل
فأصبح مثل الفلك في البحر ضائعاً
يميل مع الأمواج حيث تميل
يكاد يمد الكف لولا بقية
من الصبر في ذاك الرداء تجول
هذه هي حال تايم سكوار العربي ..
أسأل الله لنا ولكم أعواماً مديدة كلها خير وبركة، اللهم ارحم المساكين واطعمهم والبسهم من فضلك يا رب الناس.