الوعد بالتعاقد (2 من 2)

ذكرنا في المقال السابق معنى الوعد بالتعاقد وإطلاقات المعاصرين عليه مثل خطاب النوايا ومذكرة التفاهم والفرق بين الوعد والعقد والوعد والالتزام، وتطرقنا بشكل مختصر إلى فكرة جوهرية في هذا الموضوع وهي أن غالب كلام الفقهاء عن الوعد بالتعاقد هو الوعد اللفظي المجرد الذي لم يترتب عليه التزامات دون التفصيل في الوعد، الذي ترتب عليه حقوق ونشأ عنه التزامات إذا لم يتم الوفاء بها نتج عن ذلك أضرار محققة، وبالعودة إلى كلام الفقهاء نجد أنهم اتفقوا على أن الوفاء بالوعد مطلوب، يستوي في ذلك الوعد بالتعاقد أم بغيره؛ لأن ذلك من مكارم الأخلاق، ولكنهم اختلفوا في هذا الوفاء هل هو واجب أم مستحب؟ وسوف نذكر آراء الفقهاء في هذا إجمالاً، ونذكر الرأي الراجح الذي يتوافق مع قواعد الشرع المطهر:
الرأي الأول وهو لابن شبرمة: يجبر الواعد على الوفاء بما وعد به مطلقاً أي سواء كان الوعد مقروناً بسبب أم كان مجرداً عن السبب.
الرأي الثاني: وهو لجمهور الفقهاء ــــ الحنفية وبعض المالكية، والشافعية والحنابلة، والظاهرية وجمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين: لا يجبر الواعد على الوفاء بما وعد به مطلقاً أي سواء كان الوعد مقروناً بسبب أم كان مجرداً عن السبب، كما يستوي أن يقترن الوعد بقسم أم لا، وإن كان الأفضل للواعد أن يفي بوعده.
الرأي الثالث وهو لبعض فقهاء المالكية، وقضى به عمر بن عبد العزيز: يجب الوفاء بالوعد إذا كان مقروناً بسبب، يستوي في ذلك أن يدخل الموعود له في السبب أم لا، فإذا قال الواعد للموعود له، اشتر سيارة وأنا أعطيك ألفين من الريالات، فهذا الوعد مقترن بالسبب ــــ شراء السيارة ـــ فوفقاً لهذا الرأي يلزم الوعد، ويجب على الواحد أن يفي به، سواء اشترى الموعود له السيارة أو بدأ في الشراء أم لم يشتر، والظاهر أن هذا الرأي يخصص الرأي الأول، الذي يجعل الوفاء بالوعد واجباً مطلقاً.
الرأي الرابع وهو الراجح عند المالكية: يجب الوفاء بالوعد إذا كان مقروناً بسبب ودخل الموعود في تكلفة من أجل ذلك الوعد، ويظهر أن هذا الرأي يقيد الإطلاق الذي ورد في الرأي الأول أكثر مما قيده الرأي السابق فلا يكفي للقول بلزوم الوفاء أن يكون الوعد مقترناً بسبب، بل يلزم أن يبدأ الموعود له في التنفيذ فعلاً أو يكون قد نفذ بالفعل، وهذا ظاهر في أي مثال للوعد، فإذا قال الواعد للموعود له: اشتر سيارة وأنا أعطيك مبلغاً، واشتراها الموعود له فعلاً أو دفع لها عربوناً أو سعى في الشراء، فإن الوعد يلزم؛ لأن الموعود له دخل في تكلفة من أجل الوعد، أما إذا كان الوعد مجرداً عن السبب أو كان مقترناً بالسبب ولم يدخل الموعود له في التنفيذ، فإن الوعد لا يلزم عند أصحاب هذا الرأي.
ومن خلال ما تقدم يمكن القول إن الوعد اللفظي المجرد عن الالتزامات يختلف عن الوعد الذي ترتب عليه الالتزامات، فالأول يدخل في دائرة مكارم الأخلاق ونبيل الصفات، بينما يدخل الثاني في دائرة مقدمات العقد الأساسية، ويمكن جعله ضمن تركيبة العقد، ويمكن أن يأخذ حكم العقد وإن جاء على شكل وعد، ومن الخطأ حمل أقوال الفقهاء على النوع الأول وجعل كل أنواع الوعد بالتعاقد تدخل ضمنها بحيث يكون الوفاء به مستحبا وغير لازم، وبالتالي تضيع الحقوق تحت مسميات لمعان لا تنطبق عليها. والعبرة بالمعاني وليس بالألفاظ والمباني، ورحم الله ابن القيم عندما قال: محلّ الضّمان هو ما كان يقبل المعاوضة‏.‏ ولا شك أن التزامات الوعد بالتعاقد المقصود فيها المعاوضة، ولذلك نجد أن النظريات الفقهية المعاصرة أخذت بالقول الرابع وهو قول المالكية مع أن التطبيقات الفقهية لقول الجمهور تقتصر على الوعد اللفظي، بينما نجد في باب الضّمان تطبيقات فقهية لجمهور العلماء تدخله في دائرة التسبب وتحمله مسؤولية الالتزامات الناتجة عن الوعد بالتعاقد، وتجعلها ضمن دائرة التعويض عن العقد لقيام الضرر في إهمال الوعد ولا شك أن عدم تتبع الفروع الفقهية في باب الضمان وغيره يعتبر قصورا في فهم كلام الفقهاء, فالكلام عن حالة لا يعني أن كل الحالات الأخرى تأخذ حكمها، فلكل حالة مناطها الفقهي، ويتحدث عنها الفقهاء في أبواب متفرقة، وهذا يؤكد أهمية التثبت في توصيف أقوال الفقهاء والدقة في التعبير عنها, ولهذا نرى الفقيه الشافعي الإمام الزركشي يقول: الحيلولة بين المستحق وحقه ضربان: قولية، وفعلية. فالفعلية توجب الضمان قطعاً وفي القولية قولان: أصحهما نعم.
وما سبق ينعكس على الاجتهاد القضائي فما زالت المسألة محل خلاف هل الوعد ملزم أم لا؟ ويتم سرد كلام الفقهاء ويتم حشد أدلة للجمهور دون تحرير لمحل النزاع ودون التطرق لكلام الفقهاء في باب الضمان ونحوه.
وما زال الاجتهاد القضائي يعتبر بعض أنواع الوعد بالتعاقد عقدا أوليا له آثاره، والبعض يرى أنه لا يعدو أن يكون وعداً والإخلال به يدخل ضمن دائرة الأخلاق القبيحة.
والإشكال لدى من يرى أنه ضمن دائرة الأخلاق هو لو نتج عن الوعد بالتعاقد التزامات أو حصلت أضرار مالية كيف سيتعامل معها، خاصةً أن القواعد الشرعية عالجت هذه المسألة بقاعدة المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً وقاعدة لا ضرر ولا ضرار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي