100 عام على حرب كادت تمحو العالم

100 عام على حرب كادت تمحو العالم

مع اقتراب ذكرى مرور قرن على اندلاع الحرب العالمية الأولى، استعدوا لما سيأتي: هناك كتائب من المؤرخين ورؤساء التحرير يُعِدون لهذه الذكرى منذ سنوات. الفظائع التي ارتكبت في الفلاندرز وجاليبولي وجاليسيا، والتي ظلت دائماً من المواضيع الثابتة في عالم النشر، في سبيلها إلى أن تصبح مألوفة أكثر بكثير من ذي قبل.
وبالنسبة للساعين للتفوق على حمى الحرب العظمى، هناك مؤلفان شابان – أحدهما ألماني والآخر بريطاني – يعرضان الأمر من منظور مختلف، إذ اختار كل منهما استعراض العالم كما كان خلال عام 1913، وهي آخر سنة كاملة من السلام.
ولا يعطينا فلوريان إيليس وتشارلز إميرسون تفسيراً لكيفية التوجه نحو الحرب. ولن تجد هنا دراسات لجداول مواعيد القطارات، أو حالات سباق التسلح، بل يسعى المؤلفان إلى التصوير الحي لعالم كان في سبيله إلى الزوال، في السنة الأخيرة من القرن العشرين "الطويل"، حين كانت أوروبا في كامل روعتها لكن قوى التغيير كانت ملموسة أصلاً.
وشرع كل مؤلف في مهمته بطريقة مختلفة تماماً عن الآخر. فمن ناحيته، يتخذ إيليس نهجاً أدبياً لا لبس فيه – وليس في ذلك ما يدعو إلى المفاجأة بالنظر إلى كونه سليل "الملحق الألماني". وكانت صفحات المحلق الثقافي والفني تشكل رأس المائدة (بحسب اعتباراتها الذاتية في الغالب) بالنسبة لوسائل الإعلام الألمانية.
ولأنه لا يلتزم بالهيكل التقليدي القائم على رواية الأحداث، فهو يعرض 1913 على شكل سلسلة من البيانات المتفرقة من مواد مأخوذة من المصادر الأصلية – مثل صفحة من إحدى المذكرات، أو قصاصة من إحدى الصحف – ويحيكها مع طريقته الخاصة، أو يستخدم خياله في إعادة سرد أحداث معينة. وقد رتب طريقة العرض شهراً بشهر، وبالتالي كانت النتيجة كتاباً حياً ذا قوام ثري يؤرخ لعالم يشتعل بالموهبة والطاقة والخوف مما هو آت.
وأحياناً نجد أن سرعة النشاط ونطاقه يخطفان الأنفاس. هنا نجد أن هنري فورد على وشك إدخال الحزام الناقل للإنتاج في مصنعه للسيارات؛ ويتناول لويس آرمسترونج البوق للمرة الأولى؛ ويعيد الموسيقار آرنولد شونبيرج كتابة قواعد التأليف الموسيقي؛ وتُكتشَف مادة إكستاسي وطبقة الأوزون. ويعمل الروائي توماس مان على رواية "الجبل السحري"؛ أما أوزفالد إشبنجلر فيشرع في تأليف كتابه "سقوط الحضارة الغربية"؛ ويبدأ مارسيل بروست في البحث عن الزمن المفقود. ونجد أن بابلو بيكاسو وإيجون شيله وجوستاف كليمت مشغولون بدفن النظام الفني القديم. ويتم افتتاح أول محال لكوكو شانيل وبرادا. ونجد كذلك تطورات تكنولوجية، وأرقاماً قياسية جديدة للطيران، وكُتاب الخيال العلمي يتخيلون وجود أنفاق تحت الأطلسي.
وبالعودة إلى الأرض، نجد أن سيجموند فرويد وكارل يونج اختلفا وانفصلا عن بعضهما، وفرانز كافكا واقع في قبضة قصة حب فوضوية. وعلى ما يبدو انهارت فيينا أمام الجانب المرضي المقعِد للوهن العصبي والوسواس. وسواء كان لذلك تأثير على أربع من سكان عاصمة الإمبراطورية النمساوية الهنغارية في 1913 – وهم هتلر وستالين وتروتسكي وتيتو – فهذا أمر لا نعلمه. وليس لدينا أي دليل كذلك على أنهم التقوا أصلاً، رغم أن هذا لم يمنع إيليس من التعبير عن فكرة تدغدغ الخيال من قبيل "ماذا لو". وفي حين أن الأمور كانت تسير كالمعتاد بالنسبة للطبقات الحاكمة في أوروبا – هناك أعراس ملكية وحفلات صيد جماعية على نطاق ضخم، تجمع بين الأنداد والأقارب الذين سنجد خلال بضعة أشهر أنهم يمسكون بخناق بعضهم بعضاً.
وموهبة إيليس هي في حياكة كل هذا معاً بطريقة تبقي القارئ معه، حتى وإن كان يفعل ذلك أحياناً بمنتهى البذخ الزائد عن الحد. وتركيزه الواضح والصريح كان على أوروبا – وبالذات على البر الأوروبي – وعلى الثقافة. هنا – في أوروبا – كانت طليعة العالم الحديث. وكانت فصول الدراما العظيمة في الفنون هي التي تسيطر على معظم حماسة المؤلف، وأحياناً إلى حد مبالغ فيه بعض الشيء حين ينحرف قليلاً باتجاه منطقة تخصصه.
ويعرض إميرسون منظوراً يميل إلى الجانب التقليدي المدعوم بالحجج. وهو يعطينا الصورة السياسية الكبيرة والتفاصيل المهمة للأحداث والتوترات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية. وكما يوحي العنوان، فإنها نظرة عالمية، وليست أوروبية. وفي سلسلة من مقاطع طول الواحد منها 20 صفحة، يأخذنا في جولة على 23 مدينة، من لندن – "المدينة العالمية"، مركز الكون – إلى الجزائر وشنغهاي ونيويورك. هذا عالم يمر في المرحلة الأولى من العولمة. وستمر عقود كثيرة قبل أن يصبح العالم متكاملاً ودولياً كما كان في 1913. ومن بعض الجوانب لا نزال نلعب لعبة اللحاق، وهناك عدد كبير من أوجه التشابه الحديثة: الحي المالي في لندن في دور المركز المالي العالمي؛ الإعجاب بالأنموذج الألماني؛ والطفرة في الصين – والنظرة القائلة إن فرنسا ربما تكون قد تجاوزت أيام مجدها.
ويعطينا إميرسون جولة سريعة مثيرة للإعجاب تستخدم الكثير من التفاصيل على الطريق، رغم أن المرء في بعض الأحيان يشعر وكأنه في رحلة سياحية تاريخية (ما يؤكد ذلك هو أن المؤلف يكثر من الاستشهاد بالدليل السياحي بايدكر) يجد فيها أن الجولات في بعض المدن كانت أفضل من غيرها. لكن هناك بعض الأماكن الممتازة. في الإمبراطورية النمساوية الهنغارية المرقعة كان بإمكانك أن تقود على جانبي الطريق وكانت هناك عشر لغات رسمية، لكن لم يكن هناك مترجمون في البرلمان. فهل من المستغرب أنها تفككت فيما بعد؟
ومع ذلك تظل الفجوة في التصورات باقية: هذا عالم مبهم، لكنه واضح بسبب معرفتنا بما حدث بعد ذلك. وفي حين كان هناك بعض الناس الذين شعروا باقتراب المتاعب، إلا أن معظمهم كان متفائلاً بصورة تدعو إلى الاستغراب. وحين اقترب عام 1913 من نهايته، كانت صحف لندن تتطلع إلى أوقات أفضل. وأخذت "الإيفننج ستاندار" وجهة النظر المستقبلية، وتساءلت عما ستكون عليه الإمبراطورية البريطانية في 2013. والجواب، كما يقول إميرسون، كان "متنزهاً عاماً على الطراز البريطاني" – بمعنى أن تظل الإمبراطورية على حالها، لكن بعد إعادة صياغتها على شكل اتحاد فيدرالي أنجلو ساكسوني تكون عاصمته على طول الحدود الأمريكية الكندية. لكن الأحداث تطورت بصورة مختلفة على المديين الطويل والقصير.

الأكثر قراءة