«ديلويت» وبراعة غسل الأموال

لا يهم من الإرهابي الذي تتعامل معه، وليس عليك أن تقلق من افتضاح أمرك أمام الدولة التي منحتك رخصة ممارسة العمل المصرفي، كل ما عليك فعله المضي قدما في ملء جيوبك من الأموال المتحصلة من التغطية والتستر على المجرمين والقتلة، وطالما كنت تدفع رسومنا في الوقت دون أي تأخير ومماطلة فسنضمن لك عدم افتضاح سوء فعلك ودناءة نواياك، فنحن خبراء في الكذب والتدليس والتمويه على جهات التحقيق والمشرعين، حتى المعلومات التي ائتمننا عليها منافسوك، سنعرضها لك للبيع، وطالما كان السعر مناسبا لشهيتنا للأموال، فهي لك. هذا هو لسان حال ''ديلويت للاستشارات المالية''، الذي تم تغريمه بعشرة ملايين دولار أخيرا بتهمه الكذب وإخفاء معلومات على سلطات المال في نيويورك أثناء تأديته عملية مراجعة على أعمال ''ستاندارد تشارتارد''. كما تم منع ''ديلويت'' من تقديم خدمات استشارية لأي جهة مالية مرخصة من سلطات المال في نيويورك.
مضى نحو العام على خروج رئيس ''ديلويت'' على وسائل الإعلام متهما سلطات المال في نيويورك بتشويه الحقائق والمبالغة، على الرغم من وجود رسالة إلكترونية موجهة من أحد شركاء ''ديلويت'' إلى أحد مسؤولي ''ستاندارد تشارتارد'' يقر فيه بأنه أجرى تعديلات على تقرير المراجعة الذي أصدره ليكون بصيغة ''مخففة'' لا تعكس واقع الممارسات المشينة التي قام بها المصرف البريطاني المتواضع. والآن وبعد مرور أكثر من عام يثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن ''ديلويت'' قام بإخفاء معلومات ''مهمة'' عن السلطات المالية، كما قام بتسريب معلومات وتقارير ''سرية'' تخص مصارف أخرى لحليفه ''ستاندارد تشارترد''.
ليس بالأمر السهل إصلاح الصناعة المصرفية وصناعة الاستشارات المالية وغيرها من الصناعات المصاحبة، فالقائمون على هذه الصناعات الأكثر ذكاء والأكثر علما بشؤون القانون وخبايا الأوضاع السياسية في البلدان التي يعملون فيها. ولكن عملية الإصلاح هذه ضرورية لتخليص هذا القطاع من غطرسة الممارسات المشينة للقائمين عليه، الذين لا يقيمون وزنا لأي اعتبار أخلاقي أو لأي قيمة إنسانية. ''إتش إس بي سي'' يغطي على تجار المخدرات في المكسيك، ويقدم البنية التحتية اللازمة لإيران وغيرها من الدول الإرهابية للقيام بعملياتها المالية المشبوهة، وبالمثل ''ستاندرد تشارترد'' الذي كان يتبجح ليل نهار بأنه لم يقع في أزمة الرهونات العقارية الأمريكية لأنه يتبع قواعد مصرفيه ''تقليدية'' حازمة، وإذ بنا نفاجأ بأنه ليس إلا أداة في أيدي ملالي طهران وعن سبق إصرار على أن يكون كذلك. وبالمثل مصرف طوكيو ميتسوبيشي وغيرها كثير. والآن بدأت تتكشف ممارسات بيوت الاستشارات المالية التي كانت تعتمد عليها الجهات الرسمية للقيام بأعمال للمراجعة على المصارف بصفتها جهات ''مستقلة''، والواقع يشير إلى أن أعمال المراجعة تلك لم تكن سوى فرصة لبيوت الاستشارات المالية تلك لتسويق بضاعتها القائمة على الكذب وخيانة الأمانة وبيع المعلومات.
إن واقع الصناعة المصرفية والمالية في العالم، على الرغم من تقدمها التقني وانتشارها الجغرافي تعاني سوء أخلاق القائمين عليها، كما تعاني ضعفا في الرقابة على تحركاتها وأعمالها. وهذا الضعف الرقابي تم استغلاله بطريقة مشينة وسيئة. وكي يتم تفادي الوقوع في المحظور مستقبلا، لا بد من مراجعة جادة وحصيفة لهذا القطاع، الذي يعتبر الأهم والأعقد في منظومة الاقتصاد الدولي. كما أن الاكتفاء بالغرامات المالية على من تثبت إدانته، يجب أن ينتهي، فالقائمون على الصناعة المصرفية والمالية في العالم من الثراء بما يجعلهم يتحملون أي غرامة. لا بد من إيقاع عقوبة السجن على هؤلاء الذين بلغ بهم السوء حد التعامل والتعاون مع تجار المخدرات والإرهابيين والقتلة، وبالمثل لا بد من إيقاع أشد العقوبات على من يكذب على السلطات نيابة عنهم، مقابل حفنة من الأموال ومقابل وعود بإبرام عقود مستقبلية ''بغرض الاستشارات المالية''، كما فعلت ''ديلويت'' وغيرها، مما ستكشف الأيام تفاصيله. إن الوسط المصرفي والمالي في الغرب يحتاج إلى تطهير، وعلى جميع الدول في العالم أن تقوم بمراجعة أعمال المصارف الأجنبية فيها، وخصوصا الدول التي تعاني الإرهاب الإيراني، وعصابات الاتجار بالمخدرات، فممارسة السيادة هي الطريقة المثلى لردع هؤلاء الجشعين المرابين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي