في معنى الحضارة

يقول علماء التاريخ والإنثروبلوجيا إن الحضارة- أي حضارة– تعتمد على أركان عدة، نظام سياسي تعاقدي وقوي، ونظام اجتماعي يقيم الأخلاق العامة ومنظومة اقتصادية، ومنظومة علمية فنية، وبغض النظر عن إسقاطاتنا لهذه العناصر على أي حضارة، أو ما نعتقده حضارة، يبقى تميز أي منظومة حضارية معتمدا على تميزها في هذه العناصر الأربعة، ووضوح تجليات هذه العناصر على أرض الواقع يرفع هذه الحضارة أو تلك لدرجة التميز أو لدرجة انبهار الآخرين بها.
في الماضي، قامت في بعض مناطقنا عدة حواضر– جمع حاضرة– أسست لمنظومات حضارية مدنية، وتميزت بعض هذه الحضارات بعقد سياسي تمثيلي، وتطور في الفنون بجميع أنواعها، وتنوع اقتصادي قل نظيره، إلا أن بعضها فشل في إرساء الاطمئنان الاجتماعي، والمقصود هنا أن ينعكس العقد السياسي والتطور الاقتصادي بدرجة مقبولة على الأمن الاجتماعي، والمقصود هنا عدم ضبابية مستقبل الناس في جميع جوانب حياتهم، أو كما يقول وليم هاولز كل شيء يساعد الإنسان على تحقيق إنسانيته. هذا الاطمئنان هو العنصر المساعد الأهم الذي يؤدي إلى تطور العلوم والفنون.
لا نستطيع أن نطلق على أي دولة أو تجمع بشري اسم حضارة، إلا إذا تمتع بقدر معقول من الاستقرار في الجوانب الأربعة الآنفة الذكر، وعلى هذا، قلما نجد في تاريخنا كعرب أن قامت حضارة بالمعنى هذا. فكل الدول التي قامت من سالف العصور وتاليها ساد القهر السياسي وتغول الدولة في حياة الناس المشهد العام، ومن الطبيعي أن يقوض هذا التغول التقدم الفكري والعلمي والفني. ولهذا، نجد الانقسام الحاد بين وجهتي نظر، الأولى تقوم على أن إرساء الأمن– بمنظور الدولة– هو الهدف، ولو كان على حساب حرية الفكر والتقدم العلمي، أما وجهة النظر الأخرى، فتميل إلى أنه بقدر ما تسهم الدولة في فسح المجال للأفكار والإبداع، بقدر ما تقوى الدولة داخلياً، ويزيد تأثيرها السياسي في باقي الدول، فتكبح الدولة يدها عن المجال العام للتفكير.
ونحن نستطيع أن نقارن بين أصحاب القولين، فنجد أن أوروبا خرجت من هذا التغول بعد صراع دموي، وكانت ولادة أوروبا الجديدة قد استغرقت عشر سنوات تقريبا، ما وضع معظم دول أوروبا على خريطة القوى العظمى، ونجد أين أدى تغول الدولة بالعراق ومصر. زبدة القول، الحرية الفكرية هي أساس من أسس التقدم لأي مجتمع، وبقدر المساحة التي تعطى للبشر بقدر ما يبدعون ويحققون الإنجازات التي تمثل جوهر قيمة الدولة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي