Author

هل تقود حلول الأزمة المالية القبرصية إلى جحر الأفاعي؟

|
أثناء مناظرة في تويتر مع الأستاذ عبد العزيز القاسم، سألني هل ستؤثر الإجراءات التي وضعت للتعامل مع الأزمة المالية القبرصية في الودائع العربية في أوروبا؟ وهل نتوقع عودة هذه الودائع؟ فوعدته بأن أبحث الموضوع للإجابة عن هذا السؤال المهم. قبل محاولة الإجابة عن سؤال الأخ عبد العزيز، لا بد من استعراض طبيعة المشكلة القبرصية، والحلول التي وضعت للتعامل معها، والملاحظات التي أُبديت حول تلك الحلول. قياسا على الدول الأوروبية الأربع التي واجهت مشاكل أثناء الأزمة المالية الحالية، والتي وضعت لها حلول مشتركة؛ فإن الأزمة القبرصية تنقسم إلى قسمين: الأول يتعلق بمديونية المصارف التي ركزت عليها الحلول التي تمت الموافقة عليها أخيرا، والآخر هو مديونية الدولة القبرصية التي لم يتم تناولها بعد. تتركز الأزمة المصرفية في أن معظم أصول المصارف القبرصية عبارة عن التزامات على الحكومة اليونانية، تم تمويل 77 في المائة منها بأموال المودعين لدى الوحدات المصرفية الخارجية. وثلث هذه الودائع تقريبا، أو ما يعادل 22 مليار يورو، عبارة عن مبالغ مودعة من قبل المواطنين الروس، يشاع أن بعضها منهوبة من أموال الحكومة الروسية وبعضا آخر يمثل نوعا من غسيل الأموال. ونظرا للوضع السياسي الهش لجزيرة قبرص الصغيرة، فقد شجعت السلطات القبرصية مصارفها على شراء السندات اليونانية مجاملة للحكومة اليونانية، كما شجعت الحكومة هذه المصارف على زيادة فروعها في اليونان دون مبرر اقتصادي. إضافة إلى ذلك، شجعت المواطنين الروس منذ انهيار النظام الشيوعي هناك على أن يجعلوا قبرص منطلقا لهم إلى أوروبا. وقد ساعدها في ذلك الطقس المعتدل والتماثل الديني الأرثوذكسي، بحيث أصبح يسكنها قرابة 60 ألف مواطن روسي منحت الحكومة القبرصية 80 منهم جنسيتها، وأصبحوا يتنقلون بحرية في أوروبا. عندما عجزت الحكومة اليونانية عن السداد، وتقرر في إطار الحل الأوروبي تخفيض قيمة هذه السندات والديون الأخرى، أصبحت المصارف القبرصية في حكم المفلسة، ما اضطر الحكومة إلى اللجوء إلى شركائها في منطقة اليورو. تتلخص الحلول، التي وضعها صندوق النقد الدولي، ووافق عليها كل من مجموعة اليورو والبنك الأوروبي، وأقرها البرلمان القبرصي أخيرا؛ بما يلي: 1- التركيز على المصرفين الرئيسين في البلاد وهما بنك قبرص وبنك لايكي، مع عدم انطباق الحلول الموضوعة على المصارف الأجنبية وفروعها، أو المصارف الوطنية الصغيرة التي تركت لمصيرها. 2- إقفال بنك لايكي، ونقل ودائعه التي تقل عن 100 ألف يورو، وهي التي ينطبق عليها التأمين على الودائع، إلى بنك قبرص. أما الودائع التي تزيد على هذا المبلغ فإن مصيرها سيكون مشابها لمصير السندات والديون الأخرى وحقوق مساهمي هذا البنك. ويُتوقع أن تصل خسائر هؤلاء المودعين إلى 50 في المائة من ودائعهم، وأن يوفر هذا الإجراء نحو 4.2 مليار يورو. 3- تطبيق خصم مماثل للخصم الذي يتوقع أن تواجهه الودائع الكبيرة في بنك لايكي على الودائع الكبيرة في بنك قبرص، والذي سيراوح بين 30 و50 في المائة، وفقا لتقديرات وزير المالية الألماني. 4- قيام الحكومة القبرصية، بصفة مؤقتة، بفرض قيود وحدود على التحويلات للخارج، وتقييد التعامل بالشيكات، وتجديد الودائع لأجل بشكل تلقائي، وفرض أخذ موافقة مسبقة من البنك المركزي على جميع الصفقات التجارية التي تتم عن طريق المصارف وتزيد مبالغها على 5 آلاف يورو. 5- إن المبلغ المطلوب لإعادة الرسملة المصرفية هو نحو 19 مليار يورو، سيوفر منها برنامج الإنقاذ الأوروبي عشرة مليارات يورو. ويرى صندوق النقد الدولي أن هذا المبلغ سيجعل مديونية الدولة القبرصية في حدود 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وأن هذه النسبة مقبولة إلى حد ما. أما إذا زادت على ذلك فإن الاعتقاد لدى الصندوق أن الدولة القبرصية سوف تعجز عن السداد. أما التسعة مليارات يورو المتبقية فعلى الحكومة القبرصية تدبيرها عن طريق الودائع المصادرة وتخصيص بعض الأصول الحكومية وزيادة الضرائب. يمكن تلخيص الملاحظات التي أبديت حول هذه الصفقة بما يلي: 1- إن مصادرة جزء من الودائع المصرفية وتقييد حركة رؤوس الأموال بموافقة صندوق النقد الدولي تعتبر هي الأولى منذ اندلاع الأزمة المالية الأوروبية. وقد نسب إلى رئيس المفاوضين الأوروبيين قوله: إن هذه الحلول سوف تقتصر على الوضع القبرصي. ثم سحب كلامه فيما بعد ما يجعل المودعين في المصارف اليونانية والإسبانية والبرتغالية والإيطالية قلقين على ودائعهم. ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك، بالإشارة إلى أنه تم تبني هذا الحل لأنه لا توجد مصارف أوروبية ستتأثر خلافا لما حصل في كل من أيرلندا واليونان والبرتغال وإسبانيا، كما أن 18 في المائة من الودائع الأوروبية سحبت من المصارف القبرصية قبل تطبيق هذا الإجراء بشهر. 2- أسوأ ما في البرنامج أنه لا يشتمل على أي عوامل تشجع استئناف النمو الاقتصادي. فصندوق النقد الدولي يتوقع أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي لقبرص بنسبة 5 في المائة قبل أن يستأنف النمو. أما الاقتصادي الحائز جائزة نوبل بول كروجمان فيقدر أن هذا الانكماش قد يصل إلى 20 في المائة. كما لا يمكن التعويل على أي دخل جديد من الغاز المكتشف حديثا قبل عام 2019م، كل ذلك سيؤدي في القريب العاجل إلى عجز الحكومة القبرصية عن تسديد ديونها السيادية؛ مما سيتطلب وضع برنامج جديد لإنقاذها. 3- يرى البعض أن هذه الإجراءات القاسية ضد قبرص كان سببها إصرار المستشارة الألمانية على الظهور بمظهر الحزم في وجه ضغوط بقية الدول الأوروبية، وأن قبرص لن تستطيع المقاومة، ما سيحسن من الوضع السياسي للمستشارة وحزبها في الانتخابات الألمانية التي ستتم في 22 أيلول (سبتمبر) من هذا العام، كما أنه يحقق الرغبة الألمانية إلى جانب عدد من الدول الأوروبية الأخرى في القضاء النهائي على نشاط الوحدات المصرفية الموجهة إلى الخارج في قبرص. 4- يرى آخرون أن هذا الحل موجها أساسا إلى روسيا والمواطنين الروس المقيمين في قبرص، حيث إن الدول الأوروبية منزعجة من العلاقة الخاصة بين قبرص وروسيا. يشار إلى أن روسيا عرضت في بداية الأزمة إقراض الحكومة القبرصية لتتمكن من حل أزمتها، إلا أن الاتحاد الأوروبي نصحها بعدم إتمام ذلك لأنه سيزيد دَيْن الحكومة إلى حدود لا تستطيع معها السداد، علما بأن قبرص مدِينة حاليا لروسيا بمبالغ تصل إلى 2.5 مليار يورو. وهنا يبرز عدد من الأسئلة: أ- إذا كان هذا الإجراء موجها لروسيا، فهل ستقبل الأخيرة بإعادة جدولة هذا القرض في الوقت الذي تصادر فيه الحكومة القبرصية جزءا من ودائع مواطنيها؟ ب- يشكل السياح الروس أكثر من 10 في المائة من السياح الذين يصلون سنويا إلى قبرص. ومع أهمية هؤلاء السياح لنمو الاقتصاد القبرصي وازدهاره، هل سيستمر هؤلاء السياح في القدوم في الوقت الذي تصادر فيه الحكومة القبرصية ودائعهم؟ ج- ما تأثير هذه الإجراءات مجتمعة في توجهات الاستثمارات الروسية ليس في قبرص وحدها وإنما في بقية الدول الأوروبية؟ هناك تكهنات بأنها سوف تبدأ في التوجه إلى الشرق وعلى الأخص الصين، ما سيزيد من القدرة التنافسية للصين أمام أوروبا. يخلص المراقبون إلى الاستنتاج، من جراء ذلك، إلى أنه رغم أن الناتج المحلي الإجمالي لقبرص لا يتجاوز 0.2 في المائة من مجموع الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي؛ فإنها أقرب دولة للخروج من منطقة اليورو، ما سيؤدي إلى اقتراف إحدى المحرمات التي تقول إن عضوية اليورو غير قابلة للفكاك. غير أن برامج الإنقاذ السابقة الأربعة من دول اليورو أظهرت تصميم هذا التجمع على المحافظة على تماسك أعضائه، وإصرارهم على عدم مغادرة أي عضو وحدته النقدية. وأخيرا، ماذا عن سؤال الأخ عبد العزيز القاسم؟ في تصوري أن الأزمة المالية التي بدأت في شهر آب (أغسطس) من عام 2007م أظهرت بكل وضوح هشاشة أوضاع المصارف في كل من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وبالتالي مدى المخاطر التي تتعرض لها الودائع وأية استثمارات أخرى تديرها تلك المصارف. لذا رأينا أنه مع تفاقم الأزمة بدأت مبالغ كبيرة تعود للمنطقة، خصوصا دول مجلس التعاون، ودول أخرى مثل لبنان والمغرب. كما اتجه جزء إلى الشرق والولايات المتحدة فيما بعد. وفي هذا الصدد يمكن إبداء ملاحظتين: 1- إن هذه الأزمة أظهرت أهمية تنويع الاستثمارات قطاعيا وجغرافيا، لذا على المستثمرين من القطاعين العام والخاص النظر في أن تتضمن محفظة استثماراتهم سلعا ومواد مثل المعادن والمحاصيل الزراعية والعقارات. 2- إن القدرة الاستيعابية في الدول التي عادت لها تلك الاستثمارات لا تزال محدودة، والخيارات الاستثمارية لا تزال قليلة، والعائد الاستثماري لا يزال متواضعا، وهذا يتطلب جهودا مكثفة، وسياسات جريئة على المستويين الحكومي والقطاع الخاص، للاستفادة من هذه الزيادة في السيولة لتنويع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد في تلك الدول. من جهة أخرى، إذا كانت هناك ودائع عربية في قبرص فهي قليلة، وأغلبها لمواطنين لبنانيين. ومما يتميز به المواطنون اللبنانيون أنهم حاذقون في تجنب المخاطر وفي الاستفادة من الأوضاع غير العادية. أما فيما يتعلق بتطبيق النموذج القبرصي على الدول الأربع التي واجهت إعادة هيكلة بواسطة نظام الإنقاذ الأوروبي؛ فإنني أشك في ذلك، لأن الأجدى كان تطبيق ذلك النموذج عند تبني برنامج الإنقاذ. أما وقد تخطت الأحداث عملية التطبيق في تلك الدول، وبدأت الأوضاع تتحسن؛ فإن إجراء من هذا النوع سيعيد الأوضاع الاقتصادية إلى الوراء، إضافة إلى أن النغمة والرسالة تغيرت في تلك الدول من إيجاد مخارج لحل المشكلة إلى وضع برامج لتسريع النمو. وتبني مثل هذا الإجراء لن يؤدي إلى تسريع النمو. نقطة أخيرة، لا بد من الإشارة إليها: وهي أن الإجراءات التي تمت في قبرص، خصوصا مصادرة جزء من الودائع، بموافقة أوروبية ومباركة من صندوق النقد الدولي؛ قد جعلت أوروبا أقل تنافسية على جذب الاستثمارات عموما، وهذا يعطي الدول الآسيوية والولايات المتحدة ميزة تنافسية إضافية.
إنشرها