توجيه الفوائض المالية لتأسيس كيانات صناعية واقتصادية واستثمارية بعيدا عن السوق الأمريكية
بعد أن أعلنت السعودية ميزانية البركة والخير، يرى اقتصاديون سعوديون يتوجب على السعودية الاستفادة من الفوائض المالية التراكمية وتنويع استثماراتها في مختلف دول العالم، وعدم التركيز فقط على السوق والسندات الأمريكية. بعد أن نجحت الحكومة السعودية في الأعوام الماضية في تجنيب الميزانية أي تقلبات في أسواق النفط، كما أنها بالتزامن خفضت الدين العام حيث تمكنت من بناء احتياطي كبير، لتعزيز استقرار إيرادات الميزانيات المقبلة من فوائض الأعوام الماضية في حالة انخفاض الواردات لعدد من السنين.
وقال لـ "الاقتصادية" الدكتور راشد أبانمي رئيس مركز السياسات النفطية والتوقعات الاستراتيجية: إن السعودية اتبعت في السنوات الماضية نهجا متحفظا جدا عند تقديراتها للواردات ليجنب ميزانياتها تقلبات النفط التي يمثل البترول نحو 90 في المائة من وارداتها، حيث إنه قليلا ما يعلن نشر أرقام رسمية عن توقعاتها لسعر برميل النفط أو التصريح بالسعر المستهدف علنا.
ويضيف الدكتور راشد: "جرت العادة بأن يكون تقديراتها تقل كثيرا عن المعدلات السائدة، الأمر الذي يوفر هامشا كبيرا للمناور. وبالفعل فلقد زادت الإيرادات نحو 1150 مليار ريال. وبلغت النفقات نحو 850 مليار ريال. بينما كانت التوقعات للميزانية أن تصل الإيرادات فيها 709 مليارات.
وتابع أبانمي أن أهمية الميزانية العامة للسعودية تكمن في عنصرين أساسيين، وهما أن الإنفاق الحكومي "المصروفات" هو المحرك الأساسي للاقتصاد السعودي، والعنصر الآخر هو أن الإيرادات تابعة لإنتاج النفط وبيعه وبالتالي أسعاره، والذي يمثل نحو 90 في المائة من الإيرادات، ما يعني أن تقدير واردات تتأسس على أسعار البترول خلال العام المقبل، التي تتميز بحساسيتها المفرطة نظرا للتقلبات في العرض والطلب، ما يعني أن السعودية تحسب إيراداتها وبالتالي إنفاقها في ميزانيتها العامة على أساس تقديرها لمتوسط سعر البرميل خلال العام المقبل الذي يعتبر هو الأساس الذي تبني عليه السعودية ميزانياتها العامة وبالتالي فإن أي تراجع في أسعار النفط سيؤثر في حسابات الميزانية السعودية وبالتالي على مشاريعها.
ويضيف على المدى القصير (خمس سنوات المقبلة) فإن السعودية الآن في منأى إلى حد كبير عن حدوث عجز محتمل يجعلها تلجأ إلى الاستدانة، فخلال هذا العام ومن إحصاءات السوق والواقع الإنتاجي للسعودية من النفط بشكل يومي سيتم تسجيل فائض مالي كبير، نظرا لارتفاع أسعار النفط إلى مستويات قياسية وصلت في المتوسط هذه السنة إلى 103 دولارات للبرميل، فيما كان متوسط الإنتاج النفطي هذه السنة نحو 9.5 مليون برميل يوميا، ومتوسط صافي تصدير خارجي قرابة 7.5 ملايين برميل يوميا.
ويقول الدكتور راشد: بالنظر إلى العلاقة الوثيقة بين مستويات الإنفاق الحكومي وأسعار وإيرادات النفط، وبما أن أسعار البترول عرضة للتقلبات، فإن ذلك يعني أن أي تراجع في أسعار النفط على مدى سنين أو أكثر سيؤثر في العائدات وبالتالي ستؤثر سلبيا في السياسة الاقتصادية السعودية، وربما تعرضها إلى مشكلات قد تتطور إلى كوارث اقتصادية على المدى المتوسط، وهذا يعني أنه على المدى القريب فإنه يجب علينا أن الاستفادة من الفوائض المالية المتراكمة، وذلك بتنويع الاستثمارات في جميع دول العالم وليس فقط الاعتماد على الاستثمار في السوق الأمريكية أو سوق السندات الأمريكية
ويرى الدكتور راشد أن هناك فرصا حقيقية تجسدت على أرض الواقع بعد الأزمة المالية في أوروبا وهي فرص لاستثمار الفوائض الحكومة، كما يجب التسابق مع الزمن لإيجاد الإطار الاقتصادي المناسب لتنويع مصادر الدخل، والعمل على زيادة نسبة إيرادات الحكومة غير النفطية على المدى المتوسط وكذلك المدى البعيد.
ويقول الدكتور راشد: "من وجهة نظري، وعند النظر إلى الأربعين عاما الماضية، والخطط الخمسية المتعاقبة منذ عام 1970 إلى الآن، تعتمد السعودية اعتمادا كبيرا على مواردها المالية من بيعها النفط، وعلى الرغم من الخطط الخمسية وأهدافها الأساسية بتنوع الاقتصاد وعد الاعتماد على مصدر واحد، أي البترول، إلا أن هذا الاعتماد استمر، وبوتيرة أعلى في الارتفاع إلى أن وصل هذا العام إلى أكثر من 93 في المائة من موارد السعودية المالية حاليا هي من صادرات النفط، وربما يصل إلى 100 في المائة إذا استمرت الخطط الخمسية على هذا المنوال.
ويضيف الدكتور راشد: أن اعتماد السعودية المتزايد على البترول كمصدر وحيد للواردات يضعها أمام مسؤولية تاريخية كبرى تجاه الوطن والأجيال المقبلة، التي من حقها تأمين موارد اقتصادية متنوعة تكفل لها وللأجيال المقبلة دخلا يدير أمورها لاحقا، وذلك بالعمل الجاد للتحرر من هذا الاقتصاد "الريعي"، وبناء كيان اقتصادي متنوع بعيدا عن الاعتماد على هذا المصدر الوحيد الذي سيؤول للنضوب، مشيرا إلى أن ذلك سيتحقق عبر خطط استراتيجية غير الخطط الخمسية التي أثبتت عدم جدواها، وذات أبعاد قصيرة (خمس سنوات) ومتوسطة (عشر سنوات) وبعيدة المدى (عشرون سنة) التي، أي الخطط بعيدة المدى، يجب أن يتفاعل معها المجتمع بشفافية تامة، وهذا يعني أنه على المدى القريب فإنه يجب علينا العمل على تخفيض مستوى الإنتاج البترولي المتدرج وتعويض ذلك بالاعتماد على عوائد صناديق استثمارية متنوعة جغرافيا وقليلة المخاطر بما يضمن سير العملية التنموية ويحقق الاستثمار الأجدى لهذه الوفرة المالية. ويؤكد أن الاستفادة من الفوائض المالية المتراكمة تكمن في تنويع الاستثمارات في جميع دول العالم وليس فقط الاعتماد على الاستثمار في السوق الأمريكية أو سوق السندات الأمريكية، فهناك فرص حقيقية تجسدت على أرض الواقع بعد الأزمة المالية في أوروبا وبعض الدول الآسيوية ودول أمريكا اللاتينية. كما أن على السعودية واجب التسابق مع الزمن لإيجاد الإطار الاقتصادي المناسب لتنويع مصادر الدخل، والعمل على زيادة نسبة إيرادات الحكومة غير النفطية على المدى المتوسط، وكذلك المدى البعيد، وعلى المدى المتوسط فمجال النجاح كبير في الاعتماد على الاقتصاد المعرفي والتوجه إلى إحداث مراكز بحوث ودوائر علمية متميزة ومتنوعة بميزانيات وإدارات مستقلة وذلك لتشجيع الالتحاق بها لتأهيل المختصين والعلماء في شتى المجالات، وكذلك إعادة تنظيم المرافق المساندة للسياحة والحج والعمرة والاعتماد التدريجي على مداخيل تلك المرافق، أما الخطط الاستراتيجية على المدى البعيد، فيجب الاعتماد في التخطيط لتلك الخطط بمشاركة المجتمع بجميع أطيافه وتنظيماته.
أما صالح الثقفي، المحلل الاقتصادي، فإنه يرى أن الفوائض المالية الضخمة للسعودية ستشكل عبئا كبيرا، إذا لم يستفد منها واستثمارها بشكل ملموس، في ظل المشكلات التضخمية والمالية التي تعانيها أمريكيا، مشيرا إلى أن وجود الفوائض ستشكل عبء الاقتصاد السعودي، رغم أن الكثيرين لا يحبذون المخاطرة باستثمار هذه الفوائض، ولكن إلا أنه يمكن استثمارها في سد احتياجات الاقتصاد الوطني محليا.
وقال الثقفي: إنه وفي ظل ضعف الاستثمار داخليا، فإن الدولة عليها إعادة تطبيق التجارب الاقتصادية والصناعية محليا بعد أن حققت إسهامات كبيرة للاقتصاد الوطني، كتجربة (سابك) وغيرها من الكيانات الاقتصادية التي أثبتت نجاحا منقطع النظير في توفير فرص عمل للشباب السعودي، مضيفا أن هذه الكيانات الاقتصادية الجديدة في حال تم إقرارها من قبل الدولة، تستطيع اختصار الطريق لقضايا اقتصادية واجتماعية أخرى كالبطالة وتنويع مصادر الدخل، فضلا عن قدرتها على تحمل مشكلات ضعف المردود المالي من صادرات النفط في المستقبل، في حال تراجعت أسعار النفط عالميا. وقال الثقفي: إن هذه القضايا تتطلب إيجاد خطط استراتيجية لسد حاجة السعودية المستقبلية من خلال تأسيس كيان اقتصادي داخلي أقوى، مما هو عليه الآن، مؤكدا أن السعودية بحاجة إلى كيان اقتصادي لا يعتمد على الدولة بدرجة كبيرة. وتابع: في حال تراجعت مشاريع وبرامج تنموية التي تتبناها الدولة فإن الاقتصاد سيعاني من ركود حقيقي، وهذا ما يجب تعويضه بتنويع الاستثمار ودعم الدولة لهذا التوجه.
وأفاد الثقفي بأن هناك مشكلات اقتصادية كبيرة جدا وتشكل مخاطر أمنية على المجتمع من بينها مشكلة البطالة مثلا، ما يتطلب استثمار الفوائض المالية في مشاريع تخلق فرصا على الشباب بالتالي معالجة مشكلة البطالة للحد من مشكلات اجتماعية وأمنية وسياسية قد تحدث في المستقبل، لذا على الدولة أن تقتصر الطريق من أجل معالجة هذه المشكلة خلال تأسيس كيانات اقتصادية تستطيع استيعاب وتدريب الشباب السعودي، وتطوير الطاقات البشرية لم تؤهل خلال نهضة الخمسين عاما الماضية، حيث لم يتم تأهيل أعداد كافية من الكوادر الوطنية لقيادة مسيرة التنمية الاقتصادية.
في ذات المنحى، يرى الدكتور أيمن كيال، وكيل كلية الإدارة الصناعية في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن أن السعودية بحاجة إلى تنويع استثماراتها الصناعية داخليا، من خلال الاستفادة من الفوائض المالية التي تحققها من صادرات النفط، مشيرا إلى أن الصناعة تُولد فرص عمل متعددة للشباب السعودي من أصحاب التخصصات العلمية سواء مهندسون أو فنيون وحرفيون في أنشطة صناعية متنوعة. ويضيف على السعودية أن تتبع ذات النهج عندما اتجهت نحو صناعة البتروكيماويات في السنوات الماضية، عليها التوجه نحو الصناعة المرتبطة بالاقتصاد المعرفي، حتى تستوعب مواردها المالية الفائضة وكوادرها البشرية الباحثة عن فرص العمل، وأن يتم التركيز على تصنيع منتجات تحتاجها الأسواق العالمية، دلل على ذلك على تجربة كوريا التي تعتمد في توفير مواردها المالية من صناعات متعددة كصناعة السيارات والأجهزة الإلكترونية والرقمية ومحطات التحلية، لذا على السعودية أن تؤسس لصناعات لخلق مزيد من الفرص الوظيفية، من خلال الاستفادة من فوائضها المالية في تأسيس هذه الصناعات داخليا".
في حين أرجع الدكتور محمد شمس رئيس استشارات الجدوى الاقتصادية والإدارية في جدة السبب الرئيس في تضييق التوسعات الاتفاقية الحكومية بالميزانية الحكومية، خاصة القطاعات الحيوية إلى سوء تقديرات إيرادات البترول السنوية بواسطة وزارة البترول والثروة المعنية وشركة أرامكو للميزانية الحكومية، مقارنة بإيرادات الفعلية بالميزانية الحكومية للدولة، باعتبارها الجهة المعنية بتقدير إيرادات البترول بالميزانية، حيث يشكل البترول 90 في المائة من إيرادات الدولة، ما عمل على تقليص الفرص الاستثمارية والتوسعات الحكومية المستحقة لقطاعات الدولة المختلفة للدولة.
وأوضح الدكتور شمس إلى أن الفارق بين تقديرات وزارة البترول وشركة الزيت العربي السعودي "أرامكو" مع الميزانية الفعلية للسعودية التي تظهر آخر العام ضخمة، حيث سجلت تقديرات الإيرادات عام 2008، 450 مليار ريال، بينما كانت الإيرادات الفعلية بالميزانية 1100 مليار ريال بفارق 650 مليار ريال أو أن 60 في المائة من إيرادات البترول السعودي لم تقرأها وزارة البترول "أرامكو" بأسواق البترول العالمية، ما عمل على تقليص الاستثمارات الحكومية بمختلف قطاعات الدولة وبالتالي خسر الاقتصاد الوطني نموا اقتصاديا كبيرا بحرمانه من هذه الإيرادات المتوقعة.
ويشير الدكتور شمس إلى أن حدوث الأزمة المالية العالمية بتلك الفترة لا يمكن أن تبرر سوء قراءة المتغيرات الاقتصادية بالاقتصاد العالمي بصفة عامة وأسواق البترول العالمية بصفة خاصة، كانت الأزمة في بدايتها وليس بالأمر الذي يخسر الاقتصاد السعودي 650 مليار ريال.
وأضاف: وقد تكرر هذا الخطأ الكبير في سنوات أخرى وعلى سبيل المثال وليس الحصر ففي عام 2011 سجلت تقديرات الإيرادات من قبل وزارة البترول والثروة المعدنية وشركة أرامكو 540 مليار ريال، بينما الإيرادات الفعلية كانت 735 مليار ريال يفارق 260 مليار ريال بمعدل 35 في المائة خطأ في التقديرات بمعنى أن وزارة البترول والمعادن استمرت في سوء قراءة أسواق البترول العالمية. هذا وقد عانى المخططون السعوديون بوزارات المالية والتخطيط والتجارة والصناعة وغيرها من القطاعات الحيوية خلال السنوات الماضية من الحصول على تقديرات خاطئة، الأمر الذي يحصر الإنفاق الحكومي في هذه الإيرادات التقديرية المنخفضة ويحرم المواطن السعودي من منافع كثيرة تنعكس على مستواه المعيشي الذي يحرص خادم الحرمين على رفعه بزيادة الإنفاق والمخصصات المالية، خاصة في التعليم والصحة. هذا ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أثر وبشكل مباشر في التوظيف وارتفاع معدلات البطالة والتضخم، لزيادة الطلب الإجمالي عن العرض الإجمالي بالمستشفيات والمدارس والجامعات وغيرها من القطاعات الحيوية، ما أدى إلى حرمان المواطن من الاستفادة من هذه التوسعات الإنفاقية والاستثمارية.
وأبان الدكتور شمس أنه لا يمكن أن نتوقع أن تتساوى توقعات تقديرات الميزانية في بداية السنة المالية مع الميزانية الفعلية في نهاية السنة المالية لكثرة المتغيرات الاقتصادية العالمية، ولكن لا بد ألا يتجاوز الفرق 25 في المائة كحد أقصى وهو ما يخالف القراءة التقديرية البترولية لميزانية المملكة بواسطة وزارة البترول وشركة أرامكو التي تجاوزت 60 في المائة عام 2008 و35 في المائة في عام 2011، بمعنى أضاعت فرص استثمارية وتوسعية بنحو 60 في المائة عام 2008 وبنحو 35 في المائة عام 2011، وهي نسبة كبيرة أحدثت خللا في التوزيع وتوسيع الاستثمارات في المملكة وعدم الاستفادة من الإيرادات الفعلية بتوسيع عمل القطاعات.
وأشار شمس إلى أن المجلس الاقتصادي الأعلى والمجلس الأعلى للبترول والمعادن حريصين على توجيه وزارة البترول وشركة أرامكو بضرورة دراسة وقراءة أسواق البترول العالمية والمتغيرات الاقتصادية العالمية جيدا، خاصة أن إيرادات البترول تعتمد على المتغيرات الاقتصادية بالعالم، فإذا انعدم التخطيط المناسب لتوزيع المصروفات الحكومية بالميزانية على القطاعات المختلفة فإن التأثير يكون سلبيا على العجلة التنموية والاقتصادية للملكة وتقلص الفرص التوسعية.