من أجل حياة وظيفية هادئة
ما زلنا في موضوع ضغوط العمل، وهنا سنتقدم خطوة إلى الأمام ونناقش مزيدا من الآليات التي تساعد الموظفين والعاملين في الشركات والمؤسسات على أداء أعمالهم بكفاءة وتساعدهم أيضا على التخلص من ضغوط العمل أو التكيف معها ومحاولة إدارتها والسيطرة عليها من أجل حياة وظيفية ناجحة وسعيدة.
بينت في مقال الأسبوع الماضي أن أول وأهم خطوة لإدارة ضغوط العمل هي ترتيب المهام الوظيفية اليومية على شكل قائمة ثم تجريد الذهن والمكان والزمان من كل شيء عدا مهمة واحدة فقط من تلك المهام، التي سبق أن ملأت بها قائمتك تحاول أن تنجزها حتى نهايتها وألا تنتقل إلى غيرها حتى تتأكد أنك قد أنهيت هذه من جذورها.
أما الخطوة الثانية فإنها في الاستمتاع بالعمل، فإذا لم تستمتع بعملك فلن تحقق النجاح الذي ترغب فيه ولن تتغلب على ضغوط العمل التي تواجهك وتجعلك تندب حظك وترى أن هذا المكان لا يناسبك، وأن القدر قد وضعك في غير محلك. والاستمتاع بالعمل لا يتعارض البتة مع الرغبة في تغيير الوضع وتحسين الحال والسعي بخطى حثيثة وجادة إلى تحقيق أحلامك داخل منظمتك أو خارجها. فيمكنك التغيير إلى الأفضل والتنقل إلى وظائف ومؤسسات تناسب قدراتك وترضي طموحاتك، فهذا واجب تمليه عليك الحياة والطموح وحب المخاطرة، ولن ترضى النفس الراغبة في العلا أن تعيش في بيئة تنظيمية متواضعة لا تحقق لها غاية ولا تروي لها رغبة. والاستمتاع بالعمل لا يعني أن تبقى سجينا لمؤسسة لا تعطيك حقوقك ورهينا لقيادات تحاول إذلالك، أبدا، أنا لا أقصد ذلك البتة، بل أقصد أن الوقت الذي تعيشه لن يعود واليوم الذي تحياه لن يتكرر فلا تعشه بحسرة وتذمر وشقاء، بل باستمتاع وحب وعطاء. كما أقصد أيضا ذلك النوع من الموظفين الذين يتنقلون بين وظائف مختلفة ويعملون في مؤسسات متعددة ورغم هذا ما زالوا يسخطون ويثورون لأنهم لا يدرون ماذا يريدون، فمثل هذا النوع هم مشكلة بأنفسهم وهم مصدر الضغوط الوظيفية في منظماتهم.
وعلينا أن نعلم حقيقة أنه لا توجد في هذا العالم ولا أظنها قد وجدت من قبل منظمة مثالية أو مؤسسة نموذجية خالية من العيوب، فجميع المؤسسات على وجه الأرض لديها مميزات وفيها معضلات فلنُقبل على أعمالنا ولنستمتع بوظائفنا وفي الوقت نفسه نحاول تحسين أحوالنا الوظيفية والتنقل بين الأقسام والإدارات داخل المنظمة أو خارجها ولنبحث عن الحظ أينما كان حتى لا تمر بنا الأيام ونحن لم نحقق مرادنا ولم نستمتع بما بين أيدينا. استمتع بعملك وأقبل عليه كأنك تحبه فأنت تقضي من ثماني إلى عشر ساعات (ما يعادل 40 ساعة أسبوعيا) في العمل، أي ثلث وقتك تقريبا تقضيه في الوظيفة فهل من العقل أن تضيعه في الثورة والشكوى والسخط ومواجهة ضغوط العمل، وتشقي نفسك وتدفع ثمن ذلك من صحتك؟ بعض الموظفين يترقبون الإجازات بفارغ الصبر وقد يحتالون ويراوغون من أجل غياب يوم أو يومين ويظلون كذلك حتي يقتربوا من التقاعد ثم ينظروا وراءهم فلا يرون إلا لحظات حالمة قد فقدوها وأياما سعيدة قد أضاعوها وخبرات فريدة كان بالإمكان حيازتها عندها يدركون أنهم أشقوا أنفسهم ومن حولهم بتضخيم ضغوط العمل وما هي سوى أوهام كان من الممكن تناسيها والتكيف معها بالاستمتاع بالوظيفة رغم عيوبها.
أنت في هذه اللحظة موظف في مكان ما وفي زمان ما ومن المستحيل أن تكون في مكان آخر وفي زمن مغاير، أي من المستحيل أن تكون في مكانين مختلفين في وقت واحد وفي زمانين متباعدين وأنت في مكان واحد، فعليك أن ترضى وليس لك - إن أردت حياة ناجحة - إلا أن ترضى وتستمتع بما بين يديك وفي الوقت نفسه تحاول تحسين وضعك والظفر بمرادك والبحث عن وظيفة أخرى ومنظمة أسمى، لكن دون ثورة ودون عراك ودون مزيد من الضغوط، فلست في حاجة إلى كل هذا، وقد أعجبتني مقولة لأحد الأساتذة الأفذاذ الذي حقق مبتغاه وظفر بطموحاته في بيئة محبطة وظروف قاسية وهو يغدو ويروح واثق الخطى مبتسم المحيا عندما سئل كيف استطاع أن يظفر بكل ذلك المجد فقال: "لقد حققت كل هذا لأنني أسير إلى أهدافي بهدوء"، وهذا بالضبط ما نريده، لديك أهداف وطموحات ولن تتحقق بين عشية وضحاها، ولن تصل إليها دون صبر ومجهود وهدوء، فلا تضيع حاضرك وتفسد ساعتك وتسمح للأيام بأن تفلت من بين يديك دون أن تذوق حلاوتها من أجل مستقبل لم يأت بعد فاستمتع بأيام العذاب وخطط لمستقبلك بهدوء واتزان.
إلا أن المتعة لها حدود فلا تبالغ في الاستمتاع بالعمل، فنحن نروج للمتعة التي تبعدك عن الضغوط وتحقق لك السعادة في بيئة العمل، فالمبالغة في الاستمتاع بالعمل تقودنا إلى أعراض جانبية، وأمراض تنظيمية، وسلوكيات غير رشيدة، فقد تقودنا إلى الانضمام إلى فئة ما يسمى شهداء العمل. وناقشت موضوع شهداء العمل في مقال سابق يمكن الرجوع إليه، لكننا نحتاج هنا قبل أن نختم إلى معرفة من هم شهداء العمل.
شهداء العمل هم أولئك الموظفون الذين يستمتعون بأعمالهم ويعطونها كل ما لديهم حتى تقضي على حياتهم الأسرية وتخل كثيرا بأعمالهم المنزلية وحقوق من هم تحت لوائهم، فاجعل للمتعة حدا واعلم أنها وسيلة لإدارة ضغوط العمل واعلم ألا أحد يستطيع أن يجلب لك المتعة في عملك سوى نفسك وعندما تشعر بها فلا يستطيع أحد أن يدخل نفسك وينتزعها من بين ضلوعك فابحث عنها وحدد مقدارها وسترى كيف تسير أمورك.