مشروع الاتحاد الخليجي.. مرة أخرى

شاركت أخيرا مع لفيف من الزملاء والكتاب والمفكرين الخليجيين والعرب في النسخة السابعة من منتدى الاتحاد الذي عقد في أبو ظبي في العشرين من تشرين الأول (أكتوبر). وحسنا فعل منظمو المنتدى حينما اختاروا موضوع "الاتحاد الخليجي.. الواقع والطموح" للتداول، خصوصا أننا على موعد قريب مع القمة السنوية لمجلس التعاون.
طرحت أوراق عمل ثلاث من إعداد مفكرين وأكاديميين خليجيين، وهي وإن أتت تحت عنوان واحد، فإنها اختلفت في مضامينها وما طرحته من تساؤلات. أصحاب الأوراق الثلاث بدأوا باستحسان فكرة التحول من التعاون إلى الاتحاد، وما يمكن أن ينجم عنه من فوائد شتى، قبل أن يتحولوا فجأة إلى التشكيك في نجاحه واستعراض ما يقف دونه من عقبات. وجاراهم في ذلك نفر من المتداخلين الخليجيين الذين انتقدوا بمرارة شديدة مسيرة وإنجازات مجلس التعاون خلال العقود الثلاثة الماضية، بل سخروا من فكرة الاتحاد نفسها.
وبطبيعة الحال لا يختلف أحد على العقبات التي تواجه المشروع المقترح، فالطريق ليس مفروشا بالورود، رغم كل ما يتوافر في خليجنا من عوامل داعمة للفكرة كالدين الواحد، والقومية الواحدة، والأنظمة السياسية المتشابهة، والجذور القبلية الواحدة للعائلات الحاكمة، وعوامل النسب والمصاهرة، وتشابه العادات والتقاليد والموروث الشعبي وغيرها، ما أسهم في صمود مجلس التعاون على مدى السنوات الثلاثين الماضية، في الوقت الذي ماتت فيه المنظومات العربية المشابهة. غير أن الخليج يواجه اليوم ما لم يواجهه من قبل من تحديات، مثل:
- سياسة إيران التوسعية المتربصة بنا بدليل دس أنفها في شؤوننا الداخلية من خلال تحريض وتجييش بعض الجماعات المؤتمرة بأمرها لأسباب مذهبية، على نحو ما حدث في البحرين وشرق السعودية والكويت.
- البرنامج النووي الإيراني الذي تحاول من خلاله طهران الهيمنة على الخليج وتركيع دوله.
- الجماعات الجهادية المرتبطة بأفكار تنظيم القاعدة، التي عاودت أنشطتها بقوة، منتشية بتداعيات ما سمي "انتفاضات الربيع العربي".
- جماعة الإخوان المسلمين التي رأت في انتصاراتها ووصولها إلى السلطة في أكثر من بلد عربي فرصة لمد أذرعها السرية للإخلال بالأمن والاستقرار في دول الخليج العربية، وما اكتشاف الإمارات أخيرا شبكة إخوانية ممولة من جماعة الإخوان المسلمين في الكويت إلا دليل على صحة ما نقول.
- السياسات الأمريكية المترددة والغبية تجاه التزاماتها الأمنية حيال المنطقة، ما يجعل ظهر المنطقة مكشوفا أمنيا، خصوصا في ظل تغير قواعد اللعبة الدولية وما يحاك تحتها من صفقات سرية، وما يتردد عن وجود خطط أمريكية لإعادة تشكيل المنطقة وتغيير أنظمتها القائمة، ناهيك عن غياب الظهير العربي.
- معضلة الفراغ الأمني المزمنة التي نشأت بجلاء الإنجليز من شرق السويس، ولم تجد لها دول المنطقة حلا ذاتيا دائما بسبب صغر حجم الكثافة السكانية، وبالتالي تواضع حجم القوات المسلحة، وغياب القاعدة الصناعية المماثلة لما لدى الجيران الأقوياء. سابعها ما عصف بالنسيج الخليجي الداخلي المتماسك عبر القرون من أمراض التفتت والبغضاء المذهبية التي أسهم النظام الفقهي الإيراني في زرعها منذ وصوله إلى السلطة، ثم جاءت "انتفاضات الربيع العربي" لتسقيها وتشعل جذوتها. ومرة أخرى فإن ما حدث في البحرين من انقسامات، وما يحدث في الكويت من تراشقات لهو خير شاهد.
- الضغوط الخارجية الأمريكية والأوروبية في صورة دعم منظمات حقوق الإنسان المحلية وقوى المجتمع المدني الخليجية ماليا وإعلاميا من أجل إحداث نوع من الفوضى التي سميت بـ "الخلاقة".
وعليه فإننا كخليجيين نعيش مرحلة قلقة للغاية، الأمر الذي يستدعي الابتعاد عن السفسطة السياسية الفارغة، وتجاوز الاعتراضات المنطلقة من حجج واهية، والاتفاق على دعم المشروع المقترح والترويج له باعتباره الحصن المنيع لأوطاننا وشعوبنا وأجيالنا القادمة بدلا من أن نصر على اشتراطات محددة أو بث مخاوف معينة مثل: قول البعض بضرورة دمقرطة المجتمعات الخليجية أولا كشرط للقبول بالاتحاد. وهذه حجة قد تكون مفهومة ومبررة في الأحوال العادية. غير أنها لا تستقيم مع ما نواجهه من مخاطر، خصوصا أن ثمار الديمقراطية لا يمكن أن تظهر بين ليلة وضحاها، بل تحتاج إلى ممارسة طويلة. ولعل خير دليل هو الديمقراطية الكويتية التي لها من العمر نحو خمسة عقود لا تزال تعاني العيوب والنواقص. وقول البعض الآخر بضرورة الاعتماد على الإرادة الشعبية لتحقيق الاتحاد، أي إجراء استفتاء شعبي حوله. وكان هذا رأي قوى المعارضة الشيعية في البحرين التي تعتبر نفسها ممثلة لأكثرية البحرينيين، وتخاف أن تضيع وسط بحر سني فيما لو تحقق الاتحاد. وقول فريق ثالث بضرورة أن تكون الأولوية للوحدة الاقتصادية وليست الوحدة الأمنية والدفاعية، مستشهدا بتجربة الاتحاد الأوروبي، وذلك من منطلق أن أي مشروع وحدوي كي يستمر يجب ألا يكون ردة فعل لظروف آنية. لكن هؤلاء نسوا أن تجربة الاتحاد الأوروبي لئن بدأت اقتصادية، فإنه سبقتها وحدة أمنية ودفاعية من خلال منظمة الناتو. فما الذي يمنع أن تتزامن الوحدة الاقتصادية مع الوحدة الدفاعية في المشروع الخليجي المقترح؟
إلى ما سبق أبدت بعض النخب مخاوفها من ابتلاع الدول الخليجية الكبرى شقيقاتها الصغرى، ومخاوفها من التهام الدول الخليجية الفقيرة لثروات شقيقاتها الغنية بفعل التفاوت الواضح بينها لجهة معدلات الدخل الفردي ومعدلات التنمية القُطرية ومستويات المعيشة، ومخاوفها من ضياع ما حققته بلدانها من دمقرطة أو انفتاح اجتماعي. وأفضل رد على هذه المخاوف هو أن الصيغة المطروحة للاتحاد الخليجي هي الصيغة الكونفيدرالية التي تحفظ لكل كيان خصوصياته، وليست الصيغة الفيدرالية الاندماجية التي تعتبر فكرة يحول دونها الكثير من العقبات القطرية الداخلية.
إن ما طرحته هذه النخب من اعتراضات وشكوك ومخاوف يجب ألا تُعطى أية أهمية لأن هذه النخب محدودة العدد وتعيش أسيرة لأوهام وأيديولوجيات عفا عليها الزمن. فمعظمهم كثيرا ما صدع رؤوسنا بالشعارات الوحدوية وطالب بوحدة عربية من "المحيط الهادر إلى الخليج الثائر"، فلما جاءت الدعوة إلى الاتحاد من عقر داره، وليس من عواصم أحزابه العقائدية في القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت، تنكر لها وسل سيوفه ضدها.
وكي نقطع دابر كل تشكيك فإن على قمة التعاون السنوية المقبلة أن تفصح بجلاء أنها بصدد إقامة اتحاد كونفيدرالي، وأن تؤكد أنها ماضية في مشروعها الوحدوي حتى بدولتين أو ثلاث على أن يلتحق المترددون فيما بعد كما حدث في الحالة الأوروبية، وأن يُصار إلى كتابة دستور مستنير من قبل مجلس تأسيسي يعين أعضاؤه بطريقة رشيدة وعادلة.
ونختتم بالقول إن مجلس التعاون ربما لم يلب كل طموحات الشارع الخليجي كما يجب، لكن الأطر والروابط والمصالح والمؤسسات التي خلقها بين شعوبه وأقطاره تعرضت لامتحانين عسيرين أولهما بفعل عدوان خارجي (غزو العراق للكويت في صيف 1990)، وثانيهما بفعل تآمر داخلي مدعوم من الخارج (محاولة المعارضة الطائفية البحرينية الانقلاب على نظام الحكم). وقد نجح المجلس في هذين الامتحانين.. وهذا يكفيه فخرا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي