النسيان من مظاهر الرحمة الإلهية
ما الذي سيكون عليه حالنا لو لم ينعم الله علينا بنعمة النسيان؟ بالقطع يعد النسيان مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية للإنسان في حال إصابته بمصائب أو شدائد، فمن دونه كنا سنجد صعوبة بالغة في الاستمرار في الحياة، وكنا لن يكون في مقدور الواحد منا الوصول إلى أهدافه والتعامل مع الحياة.
من جانب آخر، فإن النسيان ضروري جدا لكفاءة عمل المخ، لأن الأشخاص الذين لديهم مقدرة على تسجيل وتذكر كل الأحداث التي تمر بهم يعانون تضخم الذاكرة التي تصبح عندئذ عائقاً لمخ الإنسان، حيث تتراكم وتتزاحم فيه المعلومات، فضلا عن حدوث تشابك في الصور والقرائن.
من أشهر هؤلاء الأشخاص الذين يعانون افتقاد نعمة النسيان الصحفي، الروسي شيريشيفسكي الذي كان في استطاعته سماع خطاب طويل لمدة ساعتين وإعادته بعد ذلك بالكلمة والحرف وحتى أماكن التوقف، وكأنه جهاز تسجيل بشري لا يخطئ في عملية التسجيل وفي عملية إعادة إنتاج ما تم تسجيله.
هذا الصحفي الروسي، أثار فضول العلماء الذين فحصوا مخه من خلال الرنين المغناطيسي الوظيفي ومراكز المخ أثناء عملها، وتبين من الفحص أن الصحفي الروسي لا يمتلك سوى ذكاء أعلى من الأشخاص العاديين، وفي هذا الصدد، كتب أحد العلماء أن شيريشيفسكي لديه ذاكرة بصرية غير عادية، ولكنه غير قادر على اختصار أي معلومة واستخدامها في أي نص آخر، أو ربطه بأي معلومة بسبب التدفق المستمر في المعلومات التي يحصلها المخ.
إنه داء تضخم الذاكرة ذلك الذي يصيب الأشخاص الذين لديهم مشكلة في تزاحم المعلومات في الذهن، ويكونون غير قادرين على استحضارها واستخدامها حين يريدون ذلك، وأيضا لديهم مشكلة في تحصل الجديد من المعلومات لأن القديم فيها متراكم ومتزاحم ولم يفسح المجال أمام استقبال جديد.
إن المخ السليم إذن هو الذي أنعم الله عليه بنعمة النسيان، هذه النعمة التي تجعل المخ يعمل بكفاءة، ويكون قادراً على اختصار المعلومة والاستفادة بها في نص مكتوب أو ربط هذه المعلومة بمعلومة أخرى مشابهة أو مختلفة عنها، كذلك فإن نعمة النسيان لدى مخ الإنسان تجعله قادرا على تأليف النصوص وفرزها بالحذف والإضافة، وعلى أن ينسى المصائب والشدائد ليكمل طريقه في الحياة سعيدا ومتسامحا وودودا إزاء الآخرين.