جبل الرحمة.. سنام عرفة الأسود يكتسي البياض
على جبل الرحمة العتيق في مشعر عرفات، حيث وقف النبي محمد - صلى الله وسلم- تعلقت أرواح الحجاج بخالقهم، وتنوعت لحظات الخلوة مع الله ما بين أمنية واعتراف، وما بين رغبة في الخلاص من الذنوب وأخرى أن تقال العثرات.
على أعلى الجبل الذي اكتسى البياض انهمرت دموع المستغفرين كالمطر ليكون جبل الرحمة شاهدا على فرصة الخلاص الربانية التي يمنحها الله لعباده الحجاج في يوم الحج الأكبر، وفي جبل الرحمة الذي يعرف أيضا بجبل الدعاء، وهو أكمة صغيرة رفيعة في مشعر عرفات، وسنامها الأسود الذي صعد عليه الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - داعيا ربه في حجة الوداع، امتطاه يوم أمس ملايين الحجاج في خير يوم طلعت عليه الشمس، واللافت أنه يمتلئ بالحياة ليوم واحد في العام.
وجبل الرحمة أشهر مكان في مشعر عرفات بعد مسجد نمرة، وهو جبل مكون من حجارة صلدة سوداء وكبيرة، ويقع شرق عرفات، بين الطريق السابع والثامن، ويصل طول الجبل إلى ثلاثمائة متر، يعلوه شاخص طوله سبعة أمتار، الكثير من الدموع والسكينة والاتصال الروحاني بالخالق يشهده جبل الرحمة سنويا، حيث ترمي جموع الحجاج أثقال الذنوب، وتغسل ما تبقى من خطاياها بين صخوره القاسية.
الحاج بولوت المدار من تركيا دخل في نوبة بكاء ومناجاة في أقصى زوايا الجبل، يقول إن الكثير من الهموم تعصف بالبشر وفي مشعر عرفات تسنح الفرصة أن نكون أكثر قربا من خالقنا لنعود إلى أوطاننا كيوم ولدتنا أمهاتنا لا نحمل الكثير من الأسى وقد رمت هذه الجموع المباركة كل أثقالها طلبا للمغفرة.
وتضيف الحاجة فاطمة أنها انتظرت هذه اللحظة طويلا حتى تبوح بدموعها قبل أن تدعو الله أن ينقيها من الخطايا، وأن يقيل عثراتها في يوم الحج الأكبر، وأن يقبل حجتها، إذ جمعت المال من أجل لقاء الله على جبل الرحمة.
في جبل الرحمة، وجدت أرواح كثيرة السلام والسكينة بين جنبات المشعر، إلا أن مشهدا واحدا يتكرر في كل عام، وهو تدافع الحجاج مما يعرضهم لخطر السقوط، ولا بد أن يدرك الحاج أن الوقوف على الجبل لا يعد من واجبات الحج، ويعتقد بعضهم أن الوقوف بعرفات لا يكتمل إلا بصعود الجبل، وهذا اعتقاد خاطئ؛ لأن الوقوف بعرفة يتم في أي مكان داخل حدود المشعر، فالرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- يقول في حجة الوداع "وقفت هاهنا وعرفات كلها موقف"، بالأمس تمازجت أرواح وقلوب ثلاثة ملايين حاج على ثرى عرفات الطاهر ليجسدوا وحدة أمة الإسلام في التظاهرة البيضاء العظمى، وفوق جبل الرحمة وقف حجاج بيت الله الحرام بعد أن التقت أرواحهم على غاية المناجاة مع الله، فالمتجول بين تلك الجموع المباركة تتسلل إلى جنانه الفرح والغبطة، حيث يقرأ في ملامحهم فرحة لقاء ربهم فتعلو البسمة إلى أن تلامس سماء عرفات. هناك أصوت تلبية تعلو تارة وتنخفض أخرى تبعاً لمشاعرهم المضطربة في مشهد مهيب لتلك الأفواج السائرة إلى الله في هيئة واحدة يرتسم على مظهرها خطوط سكون وعلامات افتقار ومسكنة، وكلها تسير نحو هدفٍ واحد ومقصد واحد "عبادة وطاعة"، فعلى صعيد عرفات.. غابت الطقوس الاجتماعية والفوارق الوظيفية وتساوى الكل هناك.. فلا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى.. فلبس الجميع رداء وإزارا أبيضين في تظاهرة قوامها ثلاثة ملايين حاج وحدوا أنظارهم صوب السماء.. ورفعوا أكفهم بالدعاء.. «اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا».