هل نحن أمام فوضى مرورية من نوع آخر؟
عندما تصرف الدولة مليارات الريالات بسخاء وتضع الخطط التنموية، فإن المتوقع بعد ذلك أن تكون هناك مخرجات تعود بالفائدة على الناس، توازي حجم ذلك الإنفاق وإلا أصبحت الدول تدفع بالفلوس والخطط في قربة مخرومة كما يقال، وهذا يعني أن حجم الفساد على مختلف أنواعه أشرس في التهام هذه الموارد وهدرها.
من الأمور التي تنفق عليها الدولة بسخاء التعاملات الإلكترونية من إدارة إلى ربط إلى رقابة وتطبيقات، وهذه الأمور كما نعرف مكلفة وتحتاج إلى إرادة وإدارة لأدواتها واستعمالها الاستعمال الأمثل، وإلا أصبحت تنفق على الأجهزة وتشغل مصانع العالم ونصبح أكثر مستهلك جاهل للتعامل مع هذه التقنية.
في مدينة كالرياض عاصمة المملكة شاهدنا الكاميرات والحساسات يتم تركيبها في عدة شوارع وسمعنا عن مشروع الإدارة المرورية الإلكترونية وقرأنا أنها ستوفر الكثير من رجال الأمن لاستغلالها في أماكن ووظائف أخرى لإدارة فعالة للحركة المرورية، وأن هذه التقنية الذكية هي آخر ما توصل إليه العالم من أنظمة ذكية وكلام كثير عن غرف العمليات تصل بك الأحلام إلى تخيل أن السيارة هي التي ستقودك ولن تقودها أنت.
اليوم بعد كل هذا الكلام والأجهزة والتجهيزات أصبحنا نعيش أزمة وفوضى مرورية غير مسبوقة وتثير الكثير من التساؤلات والتعجبات فالتجاوزات المرورية في ظل الضغط والتوتر على الطرق وخاصة أوقات الذروة أصبحت تتخذ إشكالا عدة تزيد من الأزمة والأمن المروري وتهدد الناس وتزعجهم.
الناس في أغلب الطرق الرئيسية أصبحوا يعكسون الخطوط ويمتطون الأرصفة بسياراتهم ويقطعون الإشارات ويتزاحمون ويتدافعون وكأنهم في مباراة كرة أمريكية، وهناك تجرؤ لم يسبق له مثيل في التجاوزات المرورية كل هذه الأمور تتم مع وجود الكاميرات والأجهزة الذكية وغرف العمليات والشاشات، وأنا أعلم أن كل شيء تحت الأنظار فلماذا هذه الفوضى وهل المسؤول المواطن ووعيه وأخلاقياته أم التقنية التي أنفقنا وسننفق الكثير من الموارد المالية لاستقطابها أم خلل في الإدارة المرورية أم إهمال ممن يدير هذه التقنيات، أم أن هذه التقنيات زادت من كان مهملا إهمالا.. إلخ؟ من التساؤلات والتعجبات والاستفهام.
منذ أن بدأ الموسم الدراسي والعودة من الإجازات بدأت الفوضى، وقد أتيحت لي تجربة من ذلك الوقت حتى اليوم لمراقبة تلك الفوضى من كوبري طريق الملك خالد غربا وحتى امتداد طريق الملك عبد الله شرقا وطريق الملك عبد العزيز ونعلم أن طريق الملك عبد الله مدجج بالكاميرات الذكية وأيضا بقية التقاطعات.. وقلت لنفسي لا بد أن أكون رجل الأمن الأول ومواطنا صالحا فأبلغت عن قطع الإشارات وعكس الطريق وإغلاق لمبات الإنفاق لكل مسؤولي المرور وغرفة العمليات وكتبت لهم ثم وثقت كلامي بالصور الرقمية بشكل شبه يومي والمفاجئة ما زال الحال كما هو عليه وعلى المتضرر أن يبحث عن الحل، الغريب في الأمر أنني عندما أتحدث لموظف غرف العمليات من موقع الفوضى أشاهد الكاميرا وأقول له أنا في المكان الفلاني وأعرف أنك تشاهد الموقع مثلي من خلال الشاشة والناس ضاربون عرض الحائط بكل الأنظمة والأعراف المرورية ويصلون ويجولون تحت مرأى التقنيات والكاميرات، ولكن لا مجيب!
لقد اقتنعت أن هناك خللا يوم قلنا لرجل المرور الراجل وصاحب الدراجة والسيارة أجلس وراقب الشاشة وخلي الأجهزة هي التي تدير أخلاقيات وسلوكيات الناس.
أعتقد نحن بحاجة إلى مراجعة سلوكية ومعرفية لا استخدامنا واستهلاكنا للتقنية ومفهوم الاعتماد عليها ومفهوم تقدير دور المواطن كرجل أمن وصالح والخروج من الشعارات إلى الممارسة، فلا يمكن أن نطلب من الناس أن يتعاونوا ويبادروا بحسن النية وممارسة المواطنة الصالحة وفي نفس الوقت نستهتر بهم ولا نولي مبادراتهم الاهتمام والإصغاء والتفاعل، ومن غير الصحي أن نوظف الأعداد الهائلة من رجال الأمن ونوفر الآليات والتقنيات ونعول على حسن نية الناس وأخلاقياتهم وضميرهم ونتركهم يتصادمون مع بعض ويمارسون شتى أنواع وأساليب التجاوزات والاعتداءات السلبية والمسلكية والتطاول على حقوق الآخرين، ومن غير المنطقي ولا العلمي ولا أيضا العملي أن نستقدم أي تقنية دون دراسة للبيئة والسلوكيات والأفكار والتفاعلات للمجتمع الذي ستطبق فيه.