الحب على طريقة أفلام الكرتون !؟
تأتينا من فترة لأخرى تعبيرات صادمة من أناس لا نظن أنهم ذوي خبرة في شؤون الحب والمحبوب لقلة سنوات عمرهم ، ويستوقفنا فجأة حديثهم العميق وتعليقاتهم الفذّة البريئة التي تشق طريقها عامودياً إلى العقل قبل أن تستقر في القلب ! قالت لي أنها منذ زمن بعيد كانت تعتقد أن الحب الحقيقي كالذي يحدث في أفلام الكرتون، ذاك النوع الذي ترفرف فيه رموش عينيك صعوداً وهبوطاً لتخرج منها نجوم صغار تفرقع في سماء الغرفة ! فننشأ على اليقين بأننا سنعيش سعداء مدى الحياة دون أن نتأهب للخسارة أو النكران أو الخديعة ! ودون أن نتخيل أن هناك حبُ من طرف واحد أو تهيؤات وخزعبلات وخيانات قد تودي بمشاعرنا إلى كراهة الذكريات، وكراهة وجود الجنس الآخر بالكامل على نفس الكوكب.
فأفلام الكرتون تركز على هدف أوحد وهو صيد قلب رجل وسيم ذكي غني (ليس له ماضي)... والبحث عنه في كومة قش (بالطيبة أو الغصيبة) ! خدعونا إبتداءاً من أفعال سندريلا وتركها للحذاء وخروجها خلسة معتمدة على ساحرة ، إلى صبر الجميلة وكيف تحملت الوحش ، ثم سنو وايت والأقزام السبعة أو كما يسمونهم (المزّة والعيال السبعة)! بينما نحن على فطرتنا السليمة يعني لنا الحب في أعظم مايعنيه، أن نعطي أحدهم بعض البطاطس المقلية الخاصة بنا دون أن ننتظر في المقابل البطاطس من الطرف الآخر! الحب في بيتنا كان أن تختار أمي أفضل جزء في كتف الخروف لتعطيه لأبي ! أو أن تضحي أختي الكبرى فتعطيني ملابسها القديمة لأرتديها وتضطر هي لشراء ملابس جديدة ! فكبرنا وليتنا ما كبرنا ... لنكتشف أن الحب هو ذلك "الخفيُّ الذي لا يُرى والجلي ّ الذي لا يُخفى" والصامت الذي يصرخ بلا صوت والهادر الذي يهمس بخجل .
اكتشفنا أن أفلام الكرتون حولتنا إلى مشروع أسرة مستقبلي أقرب إلى الشك في فشل ؟ فكل الحكايات تدور في فلك الفوز بفارس الأحلام واعتبار البنت فاشلة إن تخاذلت ؟ قالت لي مسترسلة: كنا نقتنع أن مابين توم وجيري من مقالب هو تعبير راق عن أجمل معاني الصداقة ! وأن خداع الساحرة الشريرة للأميرة النائمة لتأكل التفاحة هو مزاح بدعوى أحقيتها في أن تكون أجمل نساء الأرض ؟ ولم نكن نفهم سبب تقبيل الأميرة للضفدع (المقرف) لتفوز به ! فصرنا نوزع قبلات الطفولة على أولاد العائلة ! استنكرنا أن يٌسمح لذات الرداء الأحمر ، بالذهاب دون محرم في الغابة تحمل الطعام إلى جدتها لابسةً الأحمر ليعرفها الذئب ويأكلها ! وصدقنا أن (رابونزل) رضيت بالخلوة غير الشرعية وأنزلت ضفيرتها من الصومعة فداء لأعين أميرها !
تربينا على مفاهيم مغلوطة وكبرنا داخل فقّاعة صابون نخشى أن تمس أطرافها وقائع الحياة المرّة حتى لا تنفجر ! تربينا على جمالات الحكايات الأسطورية والخيالات الخرافية.. إلا أنهم لم يربونا على اكتشاف الجمال في مرارة الواقع! نشأ جيلٌ ممتد يرفض التعايش، خلق عالمه الافتراضي الخاص بعيداً عن حياة الواقع ! نشأ جيل لا يقدّر أبسط النعم ويظن أنه فوق الآخرين وأحسن منهم ، وأن (الغِرّ) منهم هو فارس الأحلام المقصود في أفلام الكرتون لأنه إبن فلان، يلبس قميص فيرساتشي وينتعل حذاء تودز ويكمل بنظارة الراي بان ! نشأ جيل من الشباب يتخاذل عند أول مشكلة في مشوار الزواج فتتفلت عُرى المودّة والرحمة عروة عروة دون بذل أي تضحيات أو محاولات! فالأسطورة تظل أسطورة لا يمكن أن يحققها لنا الواقع !
ويظل التعبير عن الشعور بالانجذاب للجنس الآخر هاجساً مخيفاً .. لأن المحبة (لمجرد المحبة) نقيصة وعيب ! فكيف كان تهذّيب أخلاق المحبين ؟ وكيف لنا في هذا الزمان بالعفّة في المحبة ؟ وقد كان أهل الزمان الأول على الكتمان والموت أحرص، يقول الأصمعي: "فما لامريء يهوى ويكتم أمرهُ ..من الحب إلا أن يموت فيٌعذرا" . وقال حكيمهم : " إعشقوا فإن العشق يطلق اللسان ويفتح جبّلة البليد، والبخيل، ويبعث على التلطف وتحسين اللباس وتطييب المطعم ويدعو إلى الحركة والذكاء وتشريف الهمّة". هي المعادلة الصعبة إذاً، تربية الأخلاق في جيل قادم، وأفلام كرتون هادفة تعززها ، وعفّة طاهرة يرعاها غرس الدين وتوجيه الوالدين.
فلا نريد بخلاء ولا بلداء ولا ضعيفي همّة !
عندما نكون في حالة حب فأننا نبحث عن الشخص الذي يجعلنا نقتنع بذاتنا كما هي ، فعملية البحث في حدّ ذاتها تعبّر عن الرغبة في الشعور بأننا محبوبين هكذا كما نحن بلا تزوير و لا كذبٍ ولاتجمل ، وعندما نصل إلى الحب ونحصل على شخص يحبنا كما نحن ، سنشعر أننا حققنا ذاتنا. فالحب في شريعة المخلصين توليفة من الصداقة مع شخص يشاركنا المستقبل وذات الاهتمام ، حبيب يقّدر المحبوب لشخصه كما هو دون رتوش وأقنعة ، يعشق وجهه عندما يستيقظ ويتأمله بحنان عندما يغضب ، ويتواصل معه في أوج الصمت ...فكل الأفعال عند المحبين.. حسنٌ جميلُ.
"المحبة عندها هي الشعور بالطمأنينة والمؤانسة أكثر من الحب لمجرد الحب ... فهو ذاك الذي يبقى".
قالت لي كل ذلك ... وسكتّ أنا مذهولة ..عن الكلام المباح...
بنتٌ من جيل هذه الأيام حدثتني عن أفلام الكرتون.. فأسكتتني بجدارة عن الكلام المباح.