الفيلم السفيه والقابلية للاستفزاز

تفجرت الاحتجاجات في العالمين العربي والإسلامي على أثر اكتشاف فيلم على "اليوتيوب" مدبلج سفيه سافل وضيع منحط اجترأ على شخص النبي محمد ـــ صلّى الله عليه وسلّم ــــ وازدراء المسلمين، كان معروضا في لوس أنجلوس منذ عام ولم يلق سوى الإهمال.
غير أن اللافت في الأمر المدى الذي ذهب إليه الاحتجاج، فعلى حين احتج المسلمون في ماليزيا وتركيا والهند وأستراليا وحتى في باكستان بمظاهرات الشجب والاستنكار السلمي وتسليم رسالة للسفارة الأمريكية انجرف الاحتجاج العربي في مصر، ليبيا، تونس، اليمن، السودان، لبنان والعراق إلى الصخب والعنف تحطيما وإحراقا وقتلا لسفير مع ثلاثة من معاونيه، وقتلى وجرحى على الجانب الآخر.. ومع أنه حق علينا أن نغضب ونثور ونحتج على أي مساس بنبينا وبكل الأنبياء أو برموزنا الروحية وبتعاليم الإسلام مثلما هو حق لأصحاب الديانات الأخرى أن تفعل، إلا أن ممارسة هذا الحق بدت فيها المفارقة حادة بين عنفية العرب وعدم عنفية الآخرين.
إن هذه الممارسة العنيفة للاحتجاج والهياج الغوغائي العربي إزاء كل ما يصدر عن الغرب ويستشعر العرب فيه نوعا من الإهانة أو الازدراء يكاد يكون ظاهرة أحسب أن علتها كامنة في الجرح التاريخي الغائر في الذات العربية لعجزها عن التصالح مع التاريخ لاستحكام "النفس المبتورة" فيها (على حد تشخيص المفكر داريوش شايجان في كتابه القيّم بهذا العنوان) ما يشير إلى أن القابلية للاستفزاز سمة بارزة كنوع من التعويض عن هذا العجز يجعلها تنصب في فضاء تهيؤاتها مسرحا غرائزيا مشوشا تقاتل فيه طواحين الهواء بفروسية متخيلة، في كل مرة تحس هذه الذات أنها خارج التاريخ، تراه يمر من أمامها، لكنها لم تستطع دخوله حتى لكأن التاريخ العربي مسلسل إجهاض فرص ولادته.
حدث هذا مع الحروب الصليبية فما إن دحرهم العرب تحت راية العظيم صلاح الدين الأيوبي وتم تحرير بيت المقدس حتى عاد "اللنبي" ليضع قدمه على قبر صلاح الدين وهو يصرخ بشماتة: "ها نحن عدنا يا صلاح الدين". وحدث هذا مع بواكير عصر النهضة، فما إن أشعل جمال الدين الأفغاني ورفاعة الطهطاوي وبطرس البستاني ويعقوب صروف وعلي مبارك، وخير الدين التونسي، وغيرهما من رواد النهضة مشاعل التنوير حتى اختصم العرب مع سلاطين بني عثمان في النهار وتسامروا مع الغرب في الليل إلى أن فاجأهم هذا الغرب بطحن الثورة العربية الكبرى وتوزيع نسخة من خريطة سايكس بيكو بخطوط نفوذها الاستعمارية على أرضهم. وحين هبّت حركات التحرر والاستقلال ضد المستعمر وتم إخراجه من الباب فتح له العسكر والطابور الخامس الشباك ليدخل منه.. وواصل مسلسل الإجهاض مساره.
هذا وصف كئيب موجع قد لا يفلح في تفسير الظاهرة لكنه يسم هذه الذات العربية الجريحة بميسم عجزها عن التصالح مع التاريخ والارتكاس في قابليتها للاستفزاز عند الإحساس بالإهانة أو الازدراء والمسارعة إلى أبلسة الغرب أو شيطنته، لكن في الوقت نفسه وبتناقض صارخ مع هذه الأبلسة والشيطنة، يظل هذا الغرب لكل هؤلاء المتزمتين من زمر الجماعات الإسلامية بأسمائها المختلفة وأبواتها هو الملجأ والمنتجع والمنبر الذي من عليه يزعقون ضده وضد بلدانهم!
إن فائض التخلف في مجتمعنا العربي لم ينتج الإرهاب وحسب لكنه عمّق هوس عدم التصالح مع التاريخ، ولا يهم إن كان ذلك تحت رأيه سوداء أو صفراء لتصبح لوثة العنف مبررة بالقاعدة وبالمؤامرة والمندسين وبالمبرمجين وبالأجندات الداخلية والخارجية وكأن ذلك لا يحدث في أرض العرب وليس نبت تربتها منذ قرون وأنه "الحقيقة الغائبة" التي حين قالها المفكر فرج فودة في كتابه الشهير بهذا العنوان دفع حياته اغتيالاً ثمناً لها برصاص هذا العنف. ولذلك فإن ما حدث بالأمس ثم حدث اليوم أقرب لأن يحدث في الغد طالما هذا الهوس المسكون بالثأر والقصاص من التاريخ يتسيد الساحة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي