شجاعة الأتراك وتخاذل بعض العرب

لا نقصد بشجاعة الأتراك هنا موقفهم المبدئي من الثورة السورية، ولا احتضانهم مئات الآلاف من السوريين الهاربين من قمع النظام الأسدي في الوقت التي سدت فيه بعض الأنظمة العربية حدودها أمام هؤلاء، ولا تنسيقهم مع القوى الغربية للتمهيد لمرحلة ما بعد سقوط الأسد وزمرته، ولا مطالبتهم المستمرة بفرض منطقة حظر جوي، ولا تماهيهم مع المعارضة السورية حيال مبدأ أن تغيير النظام في دمشق شرط أولي لإنهاء النزاع.
لكننا نعني الموقف الشجاع الذي اتخذه الرئيس عبد الله غول حيال الدعوة التي وصلته من نظيره الإيراني لحضور قمة عدم الانحياز الأخيرة في طهران. فبينما سارعت دول عربية عديدة، بما فيها تلك التي تسود علاقاتها مع النظام الإيراني غيوم سوداء قديمة وحديثة من جراء تحريض الأخير عليها والتدخل في شؤونها الداخلية والادعاء بالسيادة على كل أو بعض ترابها الوطني، للمشاركة في القمة المذكورة وتجاهل دعوات نخبها الفكرية بضرورة المقاطعة من باب الاحتجاج على سياسات طهران العربية، ولا سيما سياساتها تجاه سورية المنكوبة بالدماء والأشلاء والخراب، تجاهلت أنقرة الدعوة الإيرانية وقررت عدم المشاركة متذرعة بمرض رئيسها وتعارض مواعيده مع موعد عقد القمة، بل أضافت أن وزير خارجيتها لن يشارك أيضا، علما بأن تركيا ليست عضوا في الحركة، وبالتالي فإن القصد من وراء الدعوة الإيرانية المذكورة هو الظهور بمظهر الدولة التي يلتف حولها أكبر عدد من القادة.
وسواء كان باعث القرار التركي هو تسجيل موقف مستقل، أو النأي بالنفس عن قرارات قد تصدر عن القمة لمصلحة النظام السوري وداعميه الإقليميين والدوليين، أو بفعل ضغوط من الولايات المتحدة والدول الغربية التي حثت حلفاءها بعدم المشاركة في قمة طهران كي تقطع الطريق على الأخيرة للخروج من عزلتها المريرة والادعاء بانفتاح نحو 120 دولة عليها رغم أنف ''قوى الاستكبار''، أو كان من باب المناكفة والصراع على قيادة العالم الإسلامي في زمن تراجع فيه نفوذ العرب لجهة التأثير في القضايا الإقليمية، فإن أنقرة كانت شجاعة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، خصوصا أنها تعتمد في جزء معتبر من وارداتها النفطية على إيران، دعك من مسألة أخرى هي قضية أكراد تركيا التي يمكن لطهران أن تحركها كورقة للإضرار بأمن واستقرار تركيا مثلما يفعل نظام الأسد.
البعض فسر القرار التركي على أنه تهرب من احتمالات التقاء عبد الله غول مع نظيره السوري بشار الأسد (في حال قرر الأخير المشاركة شخصيا في القمة)، قائلا إن الاتهامات التي كالها الأخير ووزراؤه وإعلامه للرئيس التركي ورئيس حكومته رجب طيب أردوغان، والمفردات النابية التي قيلت في حقهما أوجدت حالة من العداء والشكوك والمرارة التي لا يمكن تبديدها أو محوها بسهولة.
لكن البعض الآخر أضاف أيضا مسألة أخرى هي احتمال أن يكون للقرار التركي صلة برغبة الرئيس التركي في تجنب الالتقاء بالرئيس المصري محمد مرسي، الذي يتخذ موقفا مغايرا لموقف الأتراك لجهة مشاركة دول حلف الأطلسي في إنهاء الأزمة السورية، بدليل إصراره على حل الأزمة من خلال الحوار بين المعارضة السورية والنظام الأسدي عبر الأمم المتحدة. وما دعوته أثناء قمة منظمة التعاون الإسلامي الأخيرة في مكة لتشكيل لجنة من كل من إيران والسعودية ومصر وتركيا لإيجاد حل للمعضلة السورية إلا تجسيد لهذا الإصرار. هذه الدعوة التي تجاهلتها أنقرة تماما ولم تتحمس لها أو تعلق عليها، الأمر الذي يثير فرضية أن يكون للغياب التركي صلة أيضا برغبة أنقرة في النأي بنفسها عن لجنة مرسي المقترحة.
السؤال المطروح الآن هو عن تداعيات هذا الموقف التركي على علاقات وروابط طهران بأنقرة المتذبذبة أصلا. فعلى الرغم من الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين، والاتفاقيات التي تربطهما، وتصريحات مهندس السياسة الخارجية التركية أحمد داود أوغلو من أنه متفائل بمستقبل العلاقات الإيرانية - التركية، ناهيك عن محاولات أنقرة في العام الماضي إيجاد مخرج لإيران من ورطتها النووية مع وكالة الطاقة الذرية عبر الحوار، وتجاوز تجارة البلدين الجارين مبلغ عشرة مليارات دولار في 2010، فإن الواقع يقول إن هذه العلاقات يظللها تنافس حاد ليس على الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية فقط، إنما على الصعيد الأيديولوجي المغلف بثارات العصور الماضية أيضا. وليس خافيا على أحد أن صراع الدولتين أيديولوجيا أطل برأسه أخيرا بصورة واضحة بسبب ما تشهده منطقة الشرق الأوسط من تخندقات واحتقانات طائفية ومذهبية بغيضة، وهي ما وضعت تركيا في موضع المدافع عن أتباع الإسلام السني مقابل دفاع إيران عن أتباع الإسلام الشيعي كما هو معروف.
وبطبيعة الحال نظر الكثيرون إلى مواقف أنقرة هذه، وتحركات قادتها ومسؤوليها على الساحة العربية على أنه مؤشر على رغبتها في استعادة دورها التاريخي في المنطقة وأمجادها زمن الدولة العثمانية، بعدما فشلت كل محاولاتها طوال العقود الماضية لإيجاد موطئ قدم لها ضمن الاتحاد الأوروبي. غير أن هذه الرؤية لإن كانت فيها بعض الصحة، فإنها ليست صحيحة بالكامل، فالسياسة الخارجية التركية، وفق ما رسمه أوغلو، تقوم على توطيد أقدامها في العالمين العربي والإسلامي وتعزيز روابطها بهما، والتكامل معهما، مع عدم إغفال روابطها الاستراتيجية القديمة مع أوروبا والغرب عموما. وما حرصها على البقاء ضمن منظمة الناتو والتماهي مع الخطط العسكرية للأخيرة مثل مشروع إقامة درع مضاد للصواريخ فوق الأراضي التركية، الذي أغضب الإيرانيين وتم نعته بالمؤامرة التركية الغربية الصهيونية للنيل من قوى المقاومة، إلا دليل على صحة ما نقول.
وجملة القول إن تفاؤل أوغلو حول علاقات بلاده بإيران ليس في محله، تماما مثلما لم يكن تفاؤله بتحول بلاده من الاقتصاد الـ17 إلى الاقتصاد العاشر في العالم في غضون سنوات قليلة في محله. فالرجل الذي يقود الدبلوماسية التركية بديناميكية مدهشة منذ عام 2009، ويثير الجدل منذ إطلاق كتابه المعنون بـ''العمق الاستراتيجي''، راهن كثيرا في رؤيته تلك على التكامل الاقتصادي الإقليمي ضمن ''منظمة التعاون الاقتصادي'' المكونة من أفغانستان وباكستان وإيران وأذربيجان وتركمانستان وتاجيكستان وأوزبكستان وقرقيزستان وكازاخستان. وكل هذه الدول لا تشكل رقما مهما في الاقتصاد العالمي، ربما باستثناء الأخيرة التي ورثت من الاتحاد السوفياتي السابق بعض ملامح التقدم الصناعي والتكنولوجي، وتملك ثروات أولية هائلة.
وهكذا يمكن القول إن علاقات البلدين التي ترجع إلى 1926، حينما وقعا في طهران على معاهدة صداقة وأمن وسلام وعدم اعتداء لمحاربة الخارجين على القانون والأقليات المناوئة للحكومتين المركزيتين في طهران وأنقرة، ثم أتبعاها بمعاهدة أخرى في 1932 لتثبيت الأمر الواقع على حدودهما المشتركة، وهي المعاهدة التي سمحت بتبادل الزيارات ما بين رضا شاه الكبير والزعيم مصطفى كمال أتاتورك واستفادة الأول من رؤى وإصلاحات الثاني التنويرية، تمر في مخاض عسير، خصوصا في ظل ما تموج به المنطقة من صراعات واستقطابات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي