التصويت الإجباري في الانتخابات.. ضرورة ملحة
من مثالب الديمقراطية، خصوصا حينما تنعدم ثقافتها كما في دول العالم الثالث، أنها قد تدفع إلى السلطة التشريعية بأناس لا يجيدون ألف باء التشريع على حساب آخرين متمكنين، فينصرفون عن وظيفتهم الرئيسة في التشريع والمحاسبة والرقابة إلى أمور هي من صميم وظيفة المجالس البلدية، أو قد تأتي إلى سدة الرئاسة بشخصية حزبية منغلقة، قليلة التجربة، متواضعة القدرات فيما خص الشؤون الاقتصادية والدفاعية والخارجية فيعتقد أن فوزه فوز لحزبه السياسي فيمضي متصرفا في شؤون البلاد والعباد وفق نهج ذلك الحزب وحده مع إقصاء وتهميش بقية الأحزاب والأطياف. ويزداد المشهد سوءا حينما تكون تلك الشخصية منتخبة فقط من قبل نسبة ضئيلة من مجاميع من يملكون حق التصويت في الانتخابات، حيث تصبح شرعيته مسألة جدلية، وذلك على النحو الذي حدث أخيرا في مصر حينما فاز زعيم حزب الحرية والعدالة (الذراع السياسية لتنظيم الإخوان المسلمين) الدكتور محمد محمد مرسي العياط بأصوات نحو 10 في المائة من الملايين الخمسين ممن يحق لهم التصويت من أبناء شعبه.
وبطبيعة الحال فإن مكمن الخلل هنا هو عدم حرص من يحق لهم التصويت على ممارسة حقوقهم الدستورية بالتوجه إلى مراكز الاقتراع. ولمعالجة هذا الخلل عمدت بعض الدول إلى تضمين دساتيرها مواد تجعل من عملية التصويت أمرا إجباريا، وليس اختياريا، تحت طائلة فرض جملة من العقوبات. وتختلف هذه العقوبات من بلد إلى آخر، لكنها بصفة عامة تراوح بين حرمان المعني من بعض الخدمات الحكومية، أو زيادة الضرائب الحكومية عليه، أو تكليفه بالقيام بأنشطة وخدمات اجتماعية معينة، أو حرمانه من الترشح لمناصب رسمية لفترة زمنية، أو إلزامه بالخدمة العسكرية، وصولا إلى معاقبته بالغرامة أو السجن.
وإذا ما أردنا الاستطراد في هذا الموضوع، فلا بد ابتداء من توضيح أن فكرته قائمة على ضرورة تمتع الفائز في الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية بشرعية كبيرة كي يكون ممثلا بحق لطائفة واسعة من جماهير الشعب، وليس لشريحة صغيرة منهم. ومن هنا فإن الدول التي تـُلزم مواطنيها بالاقتراع تُجري انتخاباتها في أيام العطل الأسبوعية كيلا تفسح لهم مجالا للادعاء بانشغالهم بوظائفهم كمبرر لتخلفهم، بل إن هذه الدول، حرصا منها على ممارسة كل مواطن حقه الدستوري، تنقل صناديق الاقتراع مع المسؤولين عنها إلى أماكن وجود الأفراد والجماعات من تلك التي يصعب عليها ترك أعمالها (كالأطباء المناوبين في المستشفيات ورجال المطافئ وموظفي المطارات والملاحة الجوية) أو يصعب عليها ترك مواقعها بسبب العجز والمرض (كالمرضى الخاضعين للعلاج وكبار السن المقيمين في دور الرعاية).
ولعل من المحاسن الأخرى لقانون التصويت الإجباري في الانتخابات أنه يدفع المواطن دفعا نحو قراءة برامج المترشحين بتأن ودقة قبل أن يختار الأفضل والأنسب، طالما أنه مـُجبر على اختيار اسم من بين الأسماء المطروحة. وهذا بطبيعة الحال عكس ما يحدث في الدول التي لا تـُلزم مواطنيها بالتصويت، حيث لا يكترث المواطن بالاطلاع على برامج المتنافسين طالما أنه لن يـُعاقب، وحيث من السهل أيضا على بعض الجماعات واللوبيات المنظمة أن تحشد الناس خلف اسم معين، وبالتالي احتكار نتائج العملية الانتخابية لمصلحتها.
وفي هذا السياق، تقول دراسة من إعداد الأكاديمي أريند ليفارت، إنه تبين زيادة المشاركين في الانتخابات في الدول التي تـُلزم مواطنيها بالتصويت بنسب معتبرة، والعكس صحيح (مثلا بعد أن ألغت فنزويلا التصويت الإجباري في 1993 انخفضت المشاركة بنسبة 30 في المائة، وبعد أن ألغت هولندا القانون ذاته في 1967 تدنت نسبة المشاركة بواقع 20 في المائة).
كما تبين الدراسة وجود محاسن عديدة للتصويت الإجباري مثل تراجع دور المال السياسي في التأثير في النتائج، وتزايد احتمالات فوز شخصيات ذات مكانة علمية وثقافية مرموقة أو ذات خبرة طويلة في المجالات السياسية والتشريعية والإدارية.
غير أن هناك الكثيرين ممن يرون في قانون التصويت الإجباري خرقا لحقوق المواطن وحريته في الذهاب إلى صناديق الاقتراع من عدمها. ويدعم هؤلاء رؤيتهم بمبدأ أن التصويت في الانتخابات حق مدني، وليس واجبا مدنيا، مضيفين أن المواطن له الحق مثلا في الزواج وممارسة الطقوس الدينية، لكن لا يمكن إجباره عليهما
وهناك من يزعم في اعتراضه على قانون التصويت الإجباري أنه ليس من العدل أن تفرض الدولة على مواطنيها الاشتغال أو الانشغال بالسياسة عبر دفعهم دفعا نحو صناديق الاقتراع. فالكثيرون قد لا تعني لهم السياسة شيئا، ويفضلون الابتعاد عنها، خصوصا أنها مجال موبوء بالدسائس والمؤامرات.
ونختتم بالإشارة إلى أن أول من طبقت قانون التصويت الإجباري على مواطنيها هي ولاية جورجيا الأمريكية في عام 1777، أي قبل عقد من وضع الدستور الأمريكي. وتعتبر بلجيكا من أقدم دول العالم تبنيا لمثل هذا القانون، فقد فرضته على الذكور من مواطنيها في 1892 قبل أن تفرضه على إناثها ابتداء من 1949. وتعاقب بلجيكا المتخلفين عن التصويت لأربع دورات انتخابية متتالية بحرمانهم من حقوقهم السياسية لمدة عشر سنوات ووضع العراقيل أمام توليهم وظائف حكومية.
أما أستراليا المعروفة كوجهة مفضلة للهجرة، فكان دافعها لتبني القانون هو إدماج المهاجرين في وطنهم الجديد وتعزيز مفهوم المواطنة لديهم. لذا عمدت إلى تبني قانون التصويت الإجباري منذ 1924 مع فرض غرامة مالية على المتخلفين، أو سجنهم إذا ما فشلوا في دفعها.
وتلزم البرازيل والبيرو مواطنيهما ما بين 18 - 70 عاما بالتصويت، لكن الإكوادور تجعل التصويت إجباريا للفئات العمرية ما بين 18 - 65 فقط، وتستثني الأميين، أما بوليفيا التي تتبنى التصويت الإجباري أيضا فتمنح مواطنيها بطاقة للتصويت وحينما يفشل المواطن في إبرازها لإثبات اقتراعه، يـُمنع من سحب راتبه من المصارف. هذا في حين أن الأرجنتين تفرض التصويت الإجباري على كل مواطن تجاوز الـثامنة عشرة، مع إعفاء المرضى (شرط تقديمهم شهادات طبية) ومن يقيمون على بعد 500 كلم فأكثر من مراكز الاقتراع.
وتعاقب اليونان من يتخلف من مواطنيها عن التصويت في الانتخابات بعدم تمكينه من الحصول على جواز سفر أو رخصة قيادة، أما إيطاليا فتعاقبه بأداء خدمة عامة في إحدى دور الرعاية أو الحضانة.
ومن أهم الدول الآسيوية التي تتبنى قانون التصويت الإجباري في الانتخابات التشريعية والرئاسية، تايلاند والفلبين وسنغافورة. والأخيرة تعاقب المتخلفين بشطب أسمائهم من جداول الحصول على الخدمات العامة أو بالغرامة المالية ما لم يقدموا سببا مقنعا لاحتجابهم.
والحال أنه في ظل حالة اللا مبالاة التي تسود الشارع العربي حيال الانتخابات التشريعية أو الرئاسية - كما حدث في مصر بالأمس – وما قد ينجم عنها من تداعيات مؤسفة، فإنه من الأهمية بمكان الاطلاع على تجارب الدول التي ضمنت دساتيرها مواد تلزم المواطن بالاقتراع.