ماليزيا .. على خـُطى «الربيع العربي»
فيما يشبه استنساخًا لما اصطلح على تسميته ''الربيع العربي''، حاول ولا يزال يحاول بعض المعارضين الماليزيين إحداث الفوضى والتخريب في مجتمعهم الجميل، وبلادهم التي حققت إنجازات مشهودة على جميع الصعد من تلك التي يحسدهم عليها الآخرون، غير مكترثين بالعواقب الوخيمة لتصرفاتهم على أمنهم واستقرارهم ومستويات معيشتهم المرتفعة.
ففي الرابع والعشرين من نيسان (أبريل) الماضي دعت مجموعة تطلق على نفسها اسم ''بيرسيه''، وهي ائتلاف من 62 منظمة من منظمات المجتمع المدني بقيادة ثلاثة أحزاب سياسية معارضة هي: حزب تحالف الشعب من أجل العدالة (كعيدلان رقيات)، والحزب الإسلامي لعموم الماليزيين (باس)، وحزب العمل الديمقراطي (داب) أنصارها للاحتشاد في ميدان الاستقلال التاريخي المعروف باسم ''واتاران مارديكا'' من أجل الاحتجاج على القوانين الانتخابية المعمول بها التي يعتبرونها غير شفافة وغير محايدة، ومحابية لحزب أومنو الذي حكم وأدار البلاد منذ استقلالها عام 1957 دون انقطاع.
وبالفعل تجمع أكثر من 25 ألف ماليزي بحسب المصادر الرسمية، و80 ألفًا بحسب مصادر المعارضة في الميدان المذكور استجابة لنداء ''بيرسيه'' (كلمة مختصرة لعبارة ''الائتلاف من أجل انتخابات نظيفة وعادلة'')، وحاولوا قطع الطرق والاعتداء على الأملاك الخاصة والعامة، رغم تشدقهم وادعاءاتهم بسلمية احتجاجاتهم، الأمر الذي لم تجد معه قوات الأمن والشرطة بـُدًّا من التصدي لهم بخراطيم المياه والهراوات والغازات المسيلة للدموع، إضافة إلى اعتقال أكثر من 1600 متظاهر، من بينهم المعارض المعروف أنور إبراهيم نائب رئيس الوزراء الأسبق.
لم تكن تلك المظاهرة وما رافقها من أعمال طائشة سوى تتمة لما قامت به المجموعة نفسها عام 2011، بل وُصفت بأنها أحداث لم تشهدها ماليزيا منذ عام 1998، حينما تحولت شوارع العاصمة كوالالمبور إلى ساحة للاحتجاج والتنديد برئيس الحكومة الأسبق مهاتير محمد على خلفية إقصائه وصراعه على السلطة مع نائبه وخليفته المفترض أنور إبراهيم.
يقول المراقبون للشأن الماليزي إن احتجاجات أبريل، وما قد يتلوها من احتجاجات في ظل تصميم جماعة ''بيرسيه'' على تنظيم احتجاجات جماهيرية أخرى، تنطوي على مخاطر كبيرة ليس على الأمن والاستقرار والتنمية الذي نعمت بها البلاد، إنما أيضا على حزبها التاريخي الحاكم، وفرص رئيس الوزراء الحالي ''نجيب رزاق'' في البقاء كقائد للدولة والحزب.
وعلى حين يرى فريق أن احتجاجات ''بيرسيه'' غير مبررة ولا سند لها، ولا يمكن مقارنتها باحتجاجات بعض البلاد العربية التي تختلف ظروفها عن ظروف ماليزيا، يرى فريق آخر أن تلك الاحتجاجات لها ما يبررها، مضيفًا أن هدفها ليس اقتلاع النظام القائم من جذوره، كما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن، إنما إصلاح النظام الانتخابي المعمول به بحيث لا يمنح الأفضلية للحزب الحاكم، فيجعل فوزه مفروغًا منه في أي انتخابات تشريعية. وبعبارة أخرى يطالب المحتجون بإلغاء النظام الانتخابي الحالي واستبداله بنظام جديد يضمن انتخابات نظيفة وشفافة، ويستخدم أحبارًا سرية جيدة غير قابلة للإزالة كيلا يصوت المقترع أكثر من مرة، ويمنح 21 يومًا على الأقل للمترشحين لتجهيز حملاتهم بدلاً من أسبوع واحد، ويتيح لجميع القوى المتنافسة استخدام وسائل الإعلام للدعاية بصورة متكافئة، ويحول دون استخدام المال السياسي في شراء أصوات المقترعين، مع إلغاء قانون الأمن المعمول به منذ حقبة الاستعمار البريطاني الذي يتيح للسلطات توقيف النشطاء لآجال غير محددة دون تقديمهم للمحاكمة.
وبما أن تحرك قوى المعارضة من خلال ''بيرسيه''، وتهديدات الأخيرة بتكرار ما حدث هذا العام والعام الماضي يأتي قبل أقل من عام على الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها في 2013، فإن هناك من يتوجس خوفًا من احتمالات أن يتحول الكثيرون عن التصويت للحزب الحاكم إنْ استخدم الأخير القبضة الحديدية في التعامل مع المتظاهرين، ويتكرر بالتالي ما حدث في عام 2008 حينما دفعت إجراءات ''مهاتير محمد'' القمعية ضد قطب المعارضة ''أنور إبراهيم'' الكثير من أنصار حزب أومنو للتصويت ضده، الأمر الذي ساهم في منع الأخير من الفوز بثلثي مقاعد البرلمان كي يحكم البلاد براحة. ففي تلك الانتخابات حصلت قوى المعارضة لأول مرة على 48 في المائة من الأصوات، واستطاعت أن تحكم سيطرتها على خمس ولايات من أصل الولايات الـ13 التي يتكون منها الاتحاد الماليزي. لكن ذلك الانتصار سرعان ما بهت كنتيجة للانشقاقات التي حدثت داخل أحزاب المعارضة. فمثلاً حزب ''تحالف الشعب من أجل العدالة'' بقيادة أنور إبراهيم انشق على نفسه بعد صدور الأحكام القضائية ضد زعيمه حول تهمة اللواط، وهي تهمة منفرة في مجتمع محافظ كالمجتمع الماليزي. كما انشق الكثيرون من الماليزيين المنحدرين من العرقين الصيني والهندي عن حزب إبراهيم بسبب تحالفه مع الحزب الإسلامي لعموم الماليزيين على خلفية مطالبة الأخير بتطبيق الشريعة في ماليزيا دون أدنى اكتراث بتعددية البلاد الإثنية والدينية والثقافية (يشكل الماليزيون من إثنية الملايو 60 في المائة من سكان البلاد، فيما يشكل المنحدرون من الأصول الصينية 25 في المائة، والمنحدرون من الأصول الهندية 7 في المائة، والباقي ينحدرون من أصول حضرمية وسريلانكية).
ولعل ما يثير مخاوف صناع القرار داخل الحزب الحاكم أكثر لجهة ذهاب المزيد من المقاعد البرلمانية لمصلحة قوى المعارضة في الانتخابات القادمة هو أن هذه الانتخابات ستـُجرى في ظل ظروف غير مسبوقة. فإذا ما استبعدنا تأثير نجاح ''المسلمين'' العرب في الإطاحة بالأنظمة والأحزاب التي ظلت تحكمهم دهرًا، واستبعدنا معه تأثيرات حدوث تباطؤ اقتصادي على مستويات المعيشة ومعدلات النمو في البلاد، فإن ما لا يمكن استبعاده هو الأرضية الجديدة التي ستجري فوقها انتخابات العام المقبل، حيث إن نجيب رزاق، في محاولة منه لامتصاص الغضب الشعبي، عمد إلى الاستجابة لبعض مطالب المحتجين، فقام مثلاً بتخفيف بعض مواد قانون الأمن القديم، وسمح للمترشحين باستخدام وسائل الاتصال والتواصل كافة مع أنصارهم، وأصدر أوامره بتغيير الأحبار الانتخابية، وهي أمور وصفتها قوى المعارضة بـ ''التغييرات الطفيفة'' غير الملبية لمطالبها!
والحال أنه سواء أكان ما يجري في ماليزيا استنساخًا لما سـُمي ''الربيع العربي، أو حدثًا ماليزيًّا خالصًا لا شأن للأخير به، فإن القاسم المشترك بينهما هو الأصابع الأمريكية. وقد أشار رئيس الحكومة إلى ذلك بطريقة غير مباشرة حينما اتهم جماعة ''بيرسيه'' بأنها تسعى إلى إعطاء صورة قاتمة عن ماليزيا للأمريكيين والغرب، من خلال فبركة الأكاذيب وإطلاق الاتهامات الجائرة، وذلك أملاً في أن يهرع هؤلاء إلى مساعدتها حقوقيًّا وسياسيًّا. أما وزير الإعلام الماليزي ''ريس يتيم'' فقال ما معناه إن القوى الأجنبية التي تأخذ على الأمن الماليزي طريقة تعاطيها مع المحتجين، مستخدمة يافطة حقوق الإنسان، هي نفسها التي تتبع ذات الأساليب عندما يـُنتهك القانون في بلادها على أيدي الغوغاء.