واشنطن وهانوي.. من حرب طاحنة إلى تحالف عسكري

المتابع لتطور العلاقات الفيتنامية ــ الأمريكية منذ انتهاء حرب البلدين في منتصف سبعينيات القرن الماضي، التي قضى فيها نحو نصف مليون جندي أمريكي، وأضعافهم من الفيتناميين المدنيين الأبرياء، ودُكت خلالها مدن ومنشآت بأكملها في الطلعات الجوية الأمريكية التي عـُرفت بـ ''القصف السجادي''، لا بد أن يلاحظ أن ثقافة تجاوز الماضي بكل آلامه ومآسيه، وثقافة العمل والتعاون والنظر إلى المستقبل بواقعية ومسؤولية وإرادة وغيرها من الثقافات البعيدة عن الاستسلام للأوهام والهواجس من تلك السائدة في المجتمع الفيتنامي قد انسحبت أيضًا على صناع القرار من الشيوعيين الحمر في هذا البلد، فحررتهم من سياسات المقاطعة، واجترار آلام الماضي، والتجمد عند محطة تاريخية معينة، والبقاء أسرى لنظرية المؤامرة أو النظر إلى العالم الغربي الرأسمالي كله كشر مستطير، وغير ذلك من الأفكار والمواقف التي لا تزال تسيطر على رفاقهم الشيوعيين في الشرق الأوسط مثلاً، ممن هم في النهاية نتاج بيئة وثقافة مختلفة مأسورة بالماضي، ومرتهنة لشعارات انقضى زمنها.
وهنا لا بد لنا من القول إنه ما من أمة واجهت التنكيل على أيدي مستعمريها مثل الأمة الفيتنامية التي تعرضت لألفي عام من الهيمنة الصينية، و16 عامًا من الغزوات المغولية الوحشية، ونحو 100 عام من الهيمنة الاستعمارية الفرنسية واليابانية، و30 عامًا من حروب الاستقلال والوحدة ضد الفرنسيين والأمريكيين، فما غرس كل هذا في نفوس أبنائها نوازع الانتقام والكراهية والثأر والمقاطعة الأبدية، وما صبغ ثقافتهم بالدموية والنظر إلى العدو القديم نظرة الريبة والشك.
ومناسبة حديثنا اليوم عن هذا الموضوع هو ما تناقلته وكالات الأنباء أخيرًا على لسان وزير الدفاع الأمريكي ليون باتينا من أن بلاده عازمة على رسم استراتيجية عسكرية جديدة يكون محورها آسيا، وذلك بمعنى توجيه أساطيلها البحرية ووجودها العسكري نحو آسيا بدلاً من مناطق أخرى في العالم بحلول 2020. ولهذا القرار الأمريكي، بطبيعة الحال، علاقة لا تخطئها العين برغبة واشنطن في التصدي للنفوذ الصيني المتعاضم في آسيا، وحماية حلفائها التقليديين في المنطقة من احتمالات وقوعهم فريسة لطموحات بكين غير الخافية.
لم تجد واشنطن أفضل من عدوتها الفيتنامية السابقة للتعاون في تحقيق تلك الاستراتيجية، بدليل أنها ناقشت- في أثناء زيارة قام بها بانيتا إلى فيتنام في الأسبوع الأول من حزيران (يونيو) الجاري– مذكرة التعاون الدفاعي المبرمة بين البلدين في العام الماضي لتضمينها بنودًا جديدة تتيح استخدام القوات الأمريكية قاعدة ''كام راي بان'' الفيتنامية. وهذه القاعدة لمن لا يعرفها كانت ضمن أهم ثلاثة مواقع استخدمتها القوات الأمريكية لشن هجماتها في الحرب الفيتنامية ضد قوات النظام الشيوعي في فيتنام الشمالية وحلفاء الأخيرة من قوات ''الفييت كونغ''، حيث كانت تحتضن أحدث المقاتلات الأمريكية وقتذاك، وكانت توجد فيها مهابط صالحة لاستقبال طائرات الشحن والإمداد الضخمة، إضافة إلى تجهيزات متقدمة لاستقبال وصيانة قطع الأسطول البحري الأمريكي. وفي أعقاب هزيمة الأمريكيين ورحيلهم عن سايجون تخلوا عن القاعدة ومنشآتها للفيتناميين الذين سلموها بدورهم لحلفائهم السوفيات، حيث قام هؤلاء بنشر مقاتلاتهم وغواصاتهم النووية وأجهزتهم التنصتية والتجسسية فيها قبل أن يغادروها في عام 2002، ليُعاد فتحها لاحقًا، لكن كمركز تجاري، وميناء للتصدير واستقبال السفن الأجنبية، ومحطة للتزود بالمؤن، وحوض لإصلاح وصيانة السفن.
ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن فورًا هو: لماذا اختارت الولايات المتحدة فيتنام تحديدًا لمساعدتها على إنجاز خططها الاستراتيجية المستقبلية، ولم تختر غيرها من حلفائها الآسيويين التقليديين مثل الفلبين وتايلاند وتايوان وكوريا الجنوبية؟
والإجابة ترتبط بعوامل وظروف متوافرة في الحالة الفيتنامية، نجملها فيما يلي:
العامل الأول: معرفة الأمريكيين بهذا البلد، وثقافة شعبه وسلوكه، وبالتالي سهولة التعامل معه وقت حدوث طارئ أو مأزق أو خلاف ما. وبطبيعة الحال هذا من إفرازات السنوات الطويلة التي كان الأمريكيون يديرون فيها الأمور من وراء الكواليس في عهد حلفائهم من الحكومات اليمينية المتعاقبة (المدنية والعسكرية) فيما كان يُعرف بفيتنام الجنوبية.
العامل الثاني: وجود شراكة صلبة متعددة المجلات ما بين البلدين، تعززها رغبة القيادة الفيتنامية في طي صفحة الماضي إلى الأبد والانفتاح بأقصى درجة على الأمريكيين للحصول منهم على أقصى ما يمكن من الاستثمارات والتكنولوجيات من أجل البناء والتنمية، أملاً في التحول إلى نمر مشابه للنمور الآسيوية الأخرى. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى أنه منذ دخول المعاهدة التجارية الأمريكية - الفيتنامية حيز التنفيذ في 2001 تضاعف حجم التبادل التجاري البيني ثلاث مرات ليصل في 2005 مثلاً إلى أكثر من 6.4 مليار دولار، ولتصبح الولايات المتحدة أكبر سوق للصادرات الفيتنامية. وفي موازاة هذا التطور راحت الاستثمارات الأمريكية الخاصة تنهال على فيتنام، تغريها أمور مثل تنوع الفرص المجدية والمربحة، وانخفاض أجور الأيدي العاملة بنحو 30 في المائة عن مثيلاتها في الصين مثلاً، ووجود تكتل بشري يزيد على 78 مليون نسمة (60 في المائة منهم من الشباب دون الثلاثين)، ناهيك عن تجذر قيم الانضباط والإخلاص والجدية والمثابرة في العمل والتدريب. وبسبب كل هذه الأمور مجتمعة تجاوز حجم رؤوس الأموال الأمريكية المستثمرة في فيتنام في 2005 مثلاً الرقم 2.6 مليار دولار (19 في المائة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المتدفقة). أما أهم هذه الاستثمارات الأمريكية فقد كان استثمار بمبلغ مليار دولار قامت به شركة إنتل الأمريكية العملاقة، التي تعد أكبر منتج في العالم لشرائح ومعالجات الكمبيوتر، وذلك عبر قيامها بإقامة مشروعين في مدينة ''هوشي منه'' (سايغون سابقًا)، يوفران معًا نحو أربعة آلاف فرصة عمل.
العامل الثالث: ثقة الأمريكيين بأن النظام الحاكم في هانوي، لئن كان شيوعيًّا، فإنه على النقيض من النظام الشيوعي الستاليني القائم في كوريا الشمالية. بمعنى أنه ليس في وارد هدر الحاضر والمستقبل في إطلاق الشعارات العنترية، واستعراض العضلات العسكرية، وترسيخ ثقافة عبادة الفرد، والتباهي بصناعة أدوات الموت والدمار، وارتكاب الأعمال الحمقاء بحق الجيران، وتحدي المجتمع الدولي.
العامل الرابع: إن قاعدة ''كام راي بان'' واحدة من أفضل المناطق الساحلية على بحر الصيني الجنوبي، وأكثرها مثالية لتمركز القوات الأمريكية وأساطيلها البحرية، خصوصًا أن للأمريكيين معرفة دقيقة بخرائطها من أيام الحرب.
العامل الخامس: امتلاك فيتنام فرصًا أفضل من حلفاء واشنطن الآخرين في آسيا للتصدي للصينيين، طالما أن ذلك هو هدف الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، فعلاقات هانوي مع بكين تشوبها الخلافات والشكوك منذ تدخل الأولى في كمبوديا ضد أنصار الصين، دعك من خلافات البلدين حول جزر سبراتلي في بحر الصين الجنوبي، وهي أرخبيل تتنازع السيادة عليها كل من الصين وتايوان وفيتنام وماليزيا وبروناي وماليزيا والفلبين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي