أفريدي يزيد العلاقات الباكستانية - الأمريكية توترًا

''قامت واشنطن بارتكاب الكثير من الأخطاء في أفغانستان، لكن هذه الأخطاء تُعد هَيِّنَة مقارنة بأخطاء باكستان التي لا تتمتع بالأمن كدولة حتى بعد 65 عامًا من استقلالها''.
هذا ما كتبه ديفيد إغناتيوس في ''الواشنطن بوست'' الأمريكية أخيرًا تعليقًا على ما وصفه بـ''فشل إسلام أباد في الاستفادة من الوجود العسكري الأمريكي الضخم في أفغانستان خلال العقد الماضي للجم قوى وشبكات الإرهاب داخل أراضيها وحدودها المتاخمة لأفغانستان''، وهو الفشل الذي دفع الأمريكيين إلى التحرك بأنفسهم من خلال إطلاق طائرات من دون طيارين لضرب أهداف محددة داخل الأراضي الباكستانية، الأمر الذي وَتَّرَ كثيرًا علاقات الحليفين وتفاهماتهما الطويلة منذ زمن الحرب الباردة، وأحاطها بأجواء من عدم الثقة. ومع استمرار قضية شكيل أفريدي دون حسم، يُنتظر أن تزداد تلك العلاقات توترًا.
وشكيل أفريدي، لمن لم يسمع به، طبيب باكستاني متزوج من سيدة باكستانية تحمل الجنسية الأمريكية، ولعب دورًا حاسمًا لمصلحة الاستخبارات الأمريكية في إرشادها إلى مكان اختباء أسامة بن لادن في أبوط أباد، ومن ثَمَّ قتله على يد فرقة كوماندوز عسكرية أمريكية في أيار (مايو) 2011، من بعد مطاردة استغرقت نحو عقد من الزمن كما هو معروف.
وشَكَّلَ اختفاء أفريدي عن الأنظار بعد مقتل بن لادن مباشرة لغزًا كبيرًا، إلى أن تمكنت الشرطة الباكستانية من اعتقاله في 22 من أيار (مايو) 2011، وبدأت التحقيق معه. هذا التحقيق الذي أوضح الكثير من الأساليب الخفية التي اتبعها الرجل لتحقيق غايته في التوصل إلى مكان اختفاء بن لادن.
استغل أفريدي مهنته كطبيب في القيام بحملة وهمية للتطعيم ضد الشلل في منطقة أبوط أباد، التي كانت الشكوك تدور فيها حول هوية عائلة كبيرة منعزلة تقطن في أحد مجمعاتها السكنية. كان الغرض من حملة التطعيم التي جرت ما بين آذار (مارس) ونيسان (أبريل) 2011 هو الحصول على عينات من الحمض النووي لساكني المجمع المشبوه ومقارنتها بالحمض النووي لأفراد عائلة بن لادن. ورغم أن نتائج المقارنة جاءت إيجابية، فإن أفريدي قدم للأمريكان خدمة أخرى لتأكيد ما توصل إليه. فقد ساعد أجهزة ''السي آي أيه'' على تسجيل مكالمات هاتفية أجراها مع المالك المفترض للمجمع السكني المشبوه أرشد خان الملقب بالشيخ أبو أحمد الكويتي (قُتل مع بن لادن)، الذي كان واحدًا من المقربين لزعيم تنظيم القاعدة، ومن الذين يعتمد الأخير عليهم في نقل رسائله الشفهية إلى أتباعه. كما ساعدها على التنصت على مكالمات الكويتي مع سكان المجمع وتسجيلها من أجل مقارنتها بما هو متوافر لدى الأمريكان من تسجيلات سابقة لأصوات بن لادن وأفراد أسرته.
والجدير بالذكر أن وزير الدفاع الأمريكي ليون بانيتا اعترف في كانون الثاني (يناير) 2012 صراحة بالدور المحوري الذي قام به أفريدي في عملية الكشف عن مكان بن لادن. لكن ما لم يكشف الوزير النقاب عنه هو كيفية نشوء العلاقة بين الاستخبارات المركزية الأمريكية والطبيب الباكستاني. ورغم أن الأخير أخبر المحققين الباكستانيين أن من قاده إلى الأمريكان هو منظمة إنسانية دولية تعمل من بريطانيا لأجل إنقاذ الأطفال، فإن المنظمة المذكورة نفت أي صلة به.
أما حول دوافع أفريدي للتعاون مع الأمريكان للقبض على زعيم القاعدة أو قتله، فإن معظم من يعرفونه أجمعوا على أن السبب لم يكن طمعه في الحصول على المكافأة المالية الأمريكية بقدر ما كان رغبته في الانتقام من حركة ''طالبان'' الأفغانية التي تحالف بن لادن معها ومكنها من البقاء في السلطة في كابول طويلاً. وطبقا لأحد المقربين منه فإن الرجل عالج ذات مرة مجموعة من قادة طالبان المجروحين، كان من بينهم زعيمهم في منطقة خيبر المدعو منغل باغ، وبدلاً من أن يحفظ له هذا الجميل، ألقى القبض عليه وجلده وسجنه في عام 2007 أسابيع طويلة بتهمة طلب مبالغ كبيرة لمداواة الجرحى من أفراد الميليشيات المقاتلة، ولم يفرج عنه إلا بعد أن قامت زوجته بدفع فدية مالية كبيرة. وعلى أثر هذه الحادثة غادر أفريدي باكستان مع زوجته للعيش في الولايات المتحدة، ولم يعد إلى وطنه إلا في عام 2008.
وقد تبين للهيئة القضائية العليا التي شكلتها إسلام أباد للنظر في قضية الغارة الأمريكية على أبوط أباد، أن ''أفريدي'' بعد عودته من أمريكا اجتمع مرارًا مع مسؤولين أمريكيين في كل من إسلام أباد وبيشاور، وإن كل الدلائل تشير إلى أن تجنيده للعمل مع ''السي آي أيه'' تم في تلك الاجتماعات، الأمر الذي حدا بأعضاء الهيئة بالإجماع إلى اعتباره مرتكبًا للخيانة العظمى، وهي جريمة تصل عقوبتها في باكستان إلى الإعدام.
ولعل هذا السبب هو ما دفع واشنطن أخيرًا إلى التحرك في كل اتجاه للمحافظة على حياة أفريدي، وإطلاق سراحه. فقد طالبت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، وزميلها وزير الدفاع بانيتا إسلام أباد بالموافقة على إجراء عملية تبادل للمطلوبين شريطة أن يكون أفريدي ضمنهم. لكن إسلام أباد ردت بالرفض، وأعلنت أن أفريدي مواطن باكستاني ولا بد من محاكمته أمام القضاء الباكستاني، بل أعلنت أن على واشنطن ألا تتدخل في مسألة داخلية باكستانية، وألا تتعجل في إطلاق الأحكام قبل إصدار حكم قضائي نهائي على عميلها.
ولأن إسلام أباد لم يُعرف عنها مثل هذه المواقف الصارمة مع واشنطن في حالات مشابهة سابقة، فإن أغلب المراقبين يعزون موقفها الأخير إلى خوف حكومتها المدنية الحالية من جنرالات الجيش النافذين ورجال جهاز المخابرات المنيع المتربصين بها، المستعدين لإسقاطها بسبب أقل هفوة.
والحال أنه بعد مرور نحو عام على قتل زعيم تنظيم القاعدة، لا يزال شبحه مخيمًا على العلاقات الباكستانية - الأمريكية من خلال أفريدي. هذه العلاقات التي باتت مرشحة للمزيد من التعقيدات في ضوء مطالبة بعض المسؤولين الأمريكيين بمنح أفريدي الجنسية الأمريكية كي يكون هناك مبرر قانوني لواشنطن لاسترداده، خصوصًا بعدما أصدرت محكمة قبلية في منطقة خيبر، حيث تقع أبوط أباد في 24 أيار (مايو) الماضي حكمًا بسجنه لمدة 33 عامًا، بل إن هناك في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي مَنْ طالب بمنح الرجل ميدالية ذهبية، إضافة إلى منحه الجنسية، تقديرًا لشجاعته وجهوده في التوصل إلى مخبأ من كان وراء مقتل نحو ثلاثة آلاف أمريكي في هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001.
وبالتزامن مع هذه الدعوات هناك اليوم حملة غاضبة داخل الكونجرس الأمريكي لإعاقة المساعدات التي قررتها إدارة الرئيس أوباما لباكستان خلال العام القادم البالغ مقدارها 2.2 مليار دولار، بحجة أن باكستان تتعامل مع الولايات المتحدة بمكيالين، بمعنى أنها كانت تغرف من الخزانة الأمريكية أفضل المساعدات الاقتصادية والعسكرية وأكبرها، في الوقت الذي كانت فيها مخابراتها تتستر على زعيم تنظيم القاعدة وتعيق الوصول إليه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي