حال مصر فيما لو...
في مقابلة له مع قناة ''العربية'' ضمن سلسلة برنامج ''الذاكرة السياسية'' قال الفريق أحمد شفيق آخر رؤساء الحكومات في عهد الرئيس المصري السابق حسني مبارك، إن عضو مجلس قيادة الثورة المصري الراحل عبد اللطيف البغدادي'' كان الأقدر والأكفأ من بين كل زملائه لقيادة مصر في حقبة ما بعد جمال عبد الناصر. وهذه مسألة يجمع عليها الكثيرون ممن عاصروا تلك الحقبة المليئة بالتحديات الداخلية والخارجية، فالبغدادي كان يملك كاريزما وسحرا قياديا خاصا شبيها - إن لم تكن أكبر – من كاريزما رئيسه ورفيقه في السلاح جمال عبد الناصر. تلك الكاريزما التي تجسدت في طول البغدادي الفارع وأناقته وبشاشته وحبه للتنظيم والدقة في العمل، ناهيك عن مناقبه العسكرية وما تعلمه في كلية الطيران من انضباط وحزم. لكن هذه العوامل مجتمعة هي نفسها التي ربما جعلت عبد الناصر يخشاه، خصوصا أن الأخير القادم من بيئة فلاحية متواضعة كان حذرا ممن يضاهون شعبيته، ومتوجسا من طبقة الأثرياء التي كان البغدادي، المنحدر من مدينة المنصورة، أحد أبنائها.
ولهذا السبب قام عبد الناصر في أقرب فرصة سنحت له بضرب رفيقه وأحد ألمع المشاركين له في الإعداد لانقلاب 23 تموز (يوليو) 1952، عبر تجريده من حقيبة الدفاع التي منحها له أول رؤساء مصر اللواء محمد نجيب في حكومة الثورة الأولى في 1952 ومنحه بدلا من ذلك حقيبة هامشية غير سيادية هي وزارة الشؤون البلدية والقروية، مع تعيين صديقه المقرب الصاغ (الرائد) عبد الحكيم عامر بدلا منه في وزارة الحربية بعد ترفيعه دفعة واحدة إلى رتبة مشير. ولما حقق البغدادي شعبية كبيرة وصيتا جماهيريا من خلال منصبه كوزير للبلديات بسبب إنجازه مشروع كورنيش النيل في زمن قياسي، لم يجد عبد الناصر وسيلة لإبعاد زميله عن الوهج الجماهيري سوى إسناد منصب رئيس مجلس الأمة المصري له في 1958، علما بأن هذا المنصب كان قاب قوسين أو أدنى في حينه من التبخر بسبب قيام الوحدة المصرية - السورية في العام ذاته.
بعد إتمام الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية وقيام ''الجمهورية العربية المتحدة'' على عجل كما هو معروف، صار البغدادي مجرد نائب لرئيس الجمهورية دون صلاحيات تذكر ضمن مجموعة من نواب رئيس الجمهورية من الإقليمين الجنوبي والشمالي، الأمر الذي شعر معه الرجل بالإهانة والتهميش مجددا، ما دفعه إلى الانزواء والاختفاء من المشهد السياسي المصري ابتداء من 1963 حتى وفاته في 1999.
هذه الحالة تنطبق مع بعض الفوارق على عضو تاريخي آخر من أعضاء مجلس قيادة الثورة المصري الذي راح يأكل أبناءه الواحد تلو الآخر ويقصيهم، حتى لم يبقَ إلى جانب عبد الناصر قبل وفاته بسنوات عدة سوى عبد الحكيم عامر وأنور السادات وحسين الشافعي. ونقصد بهذا العضو زكريا محيي الدين، الذي رحل عن دنيانا أخيرا عن عمر ناهز السابعة والتسعين، شغل خلاله مناصب حساسة كثيرة، وكادت تؤول إليه قيادة مصر في واحد من أحلك ظروفها، لولا مشيئة الأقدار، وطغيان عواطف الجماهير على عقولها.
وعلى الرغم من أن كلمة ''لو'' لم تعد تجدي بعد كل ما حدث في التاريخ المصري المعاصر، فإن استخدامها في معرض التذكير فحسب أمر لا غبار عليه.
فلو كان أتيح للبغدادي أن يبقى في منصبه كوزير للحربية، لما آلت قيادة الجيش المصري إلى ضابط لم يكن يحمل من المؤهلات سوى قربه وعلاقاته الشخصية بعبد الناصر، ولما دخل هذا الجيش في حرب 1967 دون استعداد وتأهيل وخطة عسكرية محكمة، وبالتالي لما خسرنا أراضي عربية بلغت مساحتها أضعاف ما خسرناه في حرب فلسطين التاريخية الأولى سنة 1948، ولما كنا اليوم إزاء قضية معقدة كقضية الشرق الأوسط التي استنزفت الكثير من مقدرات وجهود الأمة العربية.
ولو أن الراحل زكريا محيي الدين قبل رئاسة مصر بعد خطاب التنحي الناصري الشهير في 1967 لما آلت الرئاسة من بعد عبد الناصر إلى أنور السادات، ولما تخبطت مصر بمشاريع الأخير السياسية التي مكنت جماعات الإسلام السياسي من الظهور والعمل على السطح والوجود في مفاصل الدولة المصرية قبل أن يسقطوه صريعا في عيد انتصاره في السادس من تشرين الأول (أكتوبر) 1981، وبمشاريعه الاقتصادية التي تآكلت بسببها الطبقة المصرية الوسطى على حساب ظهور الطبقات الطفيلية الفاسدة. دعك من وصول رئيس المصادفة حسني مبارك إلى السلطة وتأسيسه دكتاتورية فاسدة مترهلة، من بعد بضع سنوات من الإنجازات التي لا يمكن إنكارها بطبيعة الحال.
لقد كتب الكثيرون أخيرا عن مناقب زكريا محيي الدين الذي ظل طويلا ملازما لرفيقه عبد الناصر، وساعده على بناء جهازه الأمني المتين واستخباراته الحربية ذات الشبكات المتعددة من أجل التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية تحت ذريعة إسقاط الأنظمة الملكية ''الرجعية'' واستبدالها بأنظمة جمهورية ثورية، ومن أجل تزويد حركات التحرر في آسيا وإفريقيا وبلاد المغرب العربي بالدعمين المادي والمعنوي وصولا إلى استقلال بلدانها من نير الاستعمار. لكن محيي الدين كما سمعت شخصيا من ابن أخيه الدكتور عمرو محيي الدين'' الذي درسني لفترة قصيرة في كلية العلوم السياسية في جامعة القاهرة، كانت له آراؤه ومواقفه السياسية الخاصة غير المتقاطعة مع رؤى عبد الناصر، خصوصا لجهة كيفية التعامل مع قطبي الحرب الباردة (موسكو وواشنطن). وبكلام أوضح كان الرجل أقرب إلى اليمين منه إلى اليسار، وربما لهذا السبب قيل وتردد أن تنازل عبد الناصر له دون سواه عن الرئاسة بعيد هزيمة السادس من حزيران كان مقصودا، أملا في أن يتمكن الرجل برؤيته اليمينية المتقاطعة مع الغرب، وعلاقاته التي بناها مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أثناء ترتيبه لإلحاق ضباط الجيش والشرطة بدورات استخباراتية متقدمة في واشنطن، من إصلاح ما أفسده الخط الرسمي المصري المتماهي مع المعسكر الاشتراكي.
ويؤكد كلامنا هذا ما أورده الكاتب المصري صلاح عيسى في مقالة نشرت له أخيرا تحت عنوان ''رجل يوليو الذي كان يرى أن على الثورة أن تمد أقدامها بقدر طول لحافها'' من أن محيي الدين عارض مثلا قرار عبد الناصر بقطع العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا الغربية والاعتراف بألمانيا الشرقية في منتصف الستينيات عقابا لبون على اعترافها بتل أبيب. وبعبارة أخرى كان من رأي الرجل أن المقاطعة التي دعا عبد الناصر إليها وحشد خلفها معظم الدول العربية لن تؤثر في قطب صناعي كبير مثل ألمانيا الغربية، خصوصا في ظل حاجة مصر وقتذاك إلى مساعدة الخبراء العسكريين الألمان ممن كانوا موجودين في القاهرة لدعم برامج صواريخها الحربية، ناهيك عن الدور الكبير الذي لعبه الألمان في تأسيس وتقوية جهاز الأمن المصري المتواضع الموروث من العهد الملكي.