فليُطبخ الاتحاد الخليجي على نار هادئة
في الوقت الذي كانت فيه الجماهير الخليجية (على الأقل في البحرين) تستعد للاحتفال بإعلان الاتحاد الخليجي في الأسبوع ما قبل الماضي، حينما عقدت القمة التشاورية السنوية لمجلس التعاون في العاصمة السعودية، جاءتها أنباء تأجيل مشروع الاتحاد إلى وقت لاحق ''من أجل المزيد من التشاور والدراسة'' مثلما قيل، الأمر الذي أصابها بالإحباط.
وبطبيعة الحال، فإن نظام ولاية الفقيه في طهران، ومعه أتباعه من الميليشيات والشخصيات والقوى السياسية الطائفية في لبنان والعراق وسورية والبحرين والكويت، من تلك المعروفة بكراهيتها ومعارضتها لمثل هذا التوجه الوحدوي في الخليج، الذي سيُفشل حتما مخططات الأعداء والحاقدين والمتربصين، ويقف بالمرصاد لأجنداتهم التوسعية ومشاريعهم التخريبية، اعتبروا قرار التأجيل نصرا معنويا لهم، وراحوا يروجون الشائعات والأكاذيب حول وجود خلافات مستعصية بين دول مجلس التعاون، وتضارب في الآراء، وصراع على احتكار المناصب، وغير ذلك ما استدعى - حسب قولهم - تأجيل مشروع الاتحاد إلى أجل غير مسمى.
ولأن الجهات الرسمية في المنطقة، ومعها الأمانة العامة لدول مجلس التعاون، التزمت الصمت كعادتها، ولم تقل للجماهير الخليجية شيئا عن النتائج التي توصلت إليها اللجنة المكلفة بدراسة مقترح الاتحاد أو شيئا عن نقاط الاتفاق والاختلاف في مواقف الدول الأعضاء، أو شيئا عن الدول الضاغطة باتجاه الاتحاد والدول المترددة حياله (كما كتب الصديق الدكتور خالد الدخيل في عدد ''الحياة'' ليوم 20 مايو 2012)، فإن شائعات المغرضين وجدت بيئة خصبة للانتشار والقبول، ونجحت في بث الشكوك.
إن الأمر الذي لا جدال فيه هو أن منطقة الخليج تعيش اليوم وضعا استثنائيا يتطلب من قياداتها وشعوبها التكاتف والتآزر وتوحيد الإمكانات والقدرات المتاحة على أعلى المستويات وبأقصى قدر ممكن، ودون الالتفات إلى صغائر الأمور، وهذا تحديدا ما استشعرته القيادة السعودية ممثلة في خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - حينما دعت إلى ضرورة ''الانتقال من صيغة التعاون إلى صيغة الاتحاد''، فالصيغة الأولى ولدت في زمن مختلف ومن أجل التصدي لظروف مختلفة، بينما الصيغة الثانية تستدعيها تحديات جديدة مغايرة، وإن كان لا يزال من بينها التحدي الأمني الذي هيمن على صياغة ميثاق مجلس التعاون في عام 1982.
ولهذا فإن البعض المخلص الذي فوجئ بقرار تأجيل مشروع الاتحاد الخليجي كتب قائلا: إن الأوضاع المضطربة خليجيا وإقليميا وعربيا ودوليا لا تسمح بالانتظار، وإن الانتظار أو التردد يعني إرسال إشارات خاطئة إلى الأعداء والمغرضين، ما قد يغريهم بالإقدام على خطوات حمقاء تجاه دول الخليج العربية وشعوبها.
وهناك من استخدم وسائل التواصل الاجتماعي ليغرد قائلا: أمامكم يا قادة دول مجلس التعاون نموذج اتحادي زاهٍ وقوي بناه الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في دولة الإمارات، فلماذا لا تلتحقون به بدلا من إضاعة الوقت في الدراسات وتشكيل اللجان ولجان اللجان؟
غير أن هناك - وهذا رأي كاتب هذه السطور أيضا - من وجد في قرار تأجيل الإعلان عن الاتحاد خطوة لا غبار عليها، إنْ كان القصد منها فعلا المزيد من التشاور والدراسة بغية الحصول على إجماع أو شبه إجماع حيال المشروع المقترح. فأن يُطبخ المشروع الاتحادي على نار هادئة، ويُختار مكوناته بعناية ودقة، وتُؤسس هياكله لبنة لبنة، خير من العمل المتسرع غير المدروس المؤدي إلى كوارث وإحباطات ومنغصات في المستقبل.
نقول هذا وأمامنا تجربة الوحدة السورية - المصرية في عام 1958، التي تبخرت عام 1962 على يد صناعها وأكثر المتحمسين لها من ضباط الجيش السوري، بعد أن بنت عليها الجماهير العربية الآمال العريضة ورأت فيها مقدمة لتوحيد كل العرب ''من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر'' مثلما كان يتردد في حينه كشعار لا يعلوه شعار آخر.
إن من عاش تلك الحقبة يتذكر جيدا أن مآل تلك الوحدة إلى الفشل كان سببه الجوهري هو التعجل والجري وراء العواطف والمصالح الشخصية دون التوقف مليا أمام الاختلافات الجذرية بين مكونيها لجهة طبيعة النظام السياسي السائد، ودور الاقتصاد في المجتمع، ومدى ما تحقق من مكاسب اجتماعية وثقافية وحقوقية في كل قطر.
ولا نجافي الحقيقة لو قلنا: إن فشل تجربة ما سمّي بـ''الجمهورية العربية المتحدة'' بإقليميها الشمالي (مصر) والجنوبي (سورية)، جعل صانع القرار العربي يتوق إلى مشاريع وحدوية بديلة للتعويض عن الإخفاق الأول، لكن دون الاتعاظ من ذلك الإخفاق لجهة التأني والدراسة المستفيضة. وهكذا جاءت الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق عام 1963، التي ماتت قبل أن يجف حبر ميثاقها، واتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وسورية وليبيا في عام 1971 الذي لا يعرف أحد تاريخ وفاته بدقة بسبب تبرؤ أعضائه منه، ليزيدا العرب إحباطا فوق إحباط. ولعل ما زاد إحباطهم ومرارتهم النهج العبثي للزعيم الليبي الراحل معمر القذافي في استغفال نظيره التونسي الحبيب بورقيبة لإقامة وحدة اندماجية فورية بين تونس وليبيا عام 1974 تحت اسم ''الجمهورية العربية الإسلامية''، وهو المشروع الوحدوي الذي لشدة التسرع فيه كتب ميثاقه فوق أوراق الفندق الذي حل به القذافي في جزيرة جربة التونسية، بحسب شاهد عيان هو المفكر والوزير التونسي السابق عبد السلام المسدي.
ما أشرنا إليه في هذه العجالة من أمثلة وحدوية أو اتحادية عربية فاشلة يؤكد أن السبيل الأمثل إلى كيان وحدوي متين وقادر على الصمود أمام كل الزوابع والعواصف يكمن في السير خطوة خطوة، وبناء الهيكل الاتحادي على أوتاد صلبة، أي على النحو الذي سلكه الأوروبيون في بناء مشروعهم الاتحادي.
إن شعوب الخليج العربية انتظرت أكثر من 30 سنة لترى حلمها في الاتحاد يتحقق، فلا يضيرها أن تنتظر سنة أو أكثر، إن كان في ذلك مصلحة مؤكدة كأن يصار إلى حل بعض ما تبقى من خلافات حدودية، وإزالة بعض ما تبقى من عوائق الانتقال والعمل والتحرك الحر. ولنتذكر في هذا السياق نموذج الاتحاد الأوروبي المتميز في صيغته (لا كونفدرالي ولا فيدرالي)، وفي تدرج عدد أعضائه (من ست دول في الخمسينيات إلى 27 دولة حاليا)، والمتميز لجهة إعداد الدول التي تريد الالتحاق به (تهيئتها من النواحي الاقتصادية والسياسية والتشريعية والتنموية مسبقا)، والمتميز من ناحية المؤسسات التي خلقها خلال مشواره منذ أن كان مجرد اتحاد للفحم والفولاذ في عام 1951 (محكمة العدل الأوروبية، المصرف المركزي الأوروبي المركزي، والبرلمان الأوروبي، ومفوضيات الشؤون الخارجية والمالية والدفاعية والبيئية والبحثية والصحية والثقافية والتعليمية وشؤون الطاقة وغيرها).