العلاقات التركية - الإيرانية نحو مزيد من التأزُّم
كنت أتوقع أن تكون زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى العاصمة الإيرانية طهران نقطة تحول في العلاقات الإيرانية - التركية التي تدهورت بسبب التباين الواضح بين موقفي البلدين من الثورة السورية. ورغم لغة المجاملة التي اتسمت بها تصريحات القادة الأتراك عقب الزيارة، صدرت من المسؤولين الإيرانيين تصريحات صريحة تعكس حقيقة الفجوة الحاصلة، ولا تدع مجالاً لأي تأويل آخر.
خيار الجانب التركي لم يكن التصعيد ضد إيران، بل كان دائمًا يفضِّل التهدئة وتجاهل التصريحات المستفزة، لكن الجانب الإيراني اختار سياسة التصعيد ضد تركيا وحكومة أردوغان.
التصريح الأول جاء من مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني الذي هاجم مؤتمر ''أصدقاء الشعب السوري''، وقال إن ''اسمه ينبغي أن يكون مؤتمر ''مانحي الرشوة لإسرائيل'' لفك الخناق عنها''. ثم زاد عليه رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشورى الإيراني علاء الدين بوروجردي، مؤكدًا أن ''تركيا فقدت أهلية استضافة المحادثات المقبلة بين إيران ومجموعة 5+1 بسبب مواقفها ''العدائية'' ضد سورية''، وأن مجلس الشورى والحكومة الإيرانية باتا يستبعدان تركيا، وأضاف: ''اقترحنا بغداد، وإذا وافق الطرف الآخر، فستكون بغداد مقرًّا لاستضافة المفاوضات''.
لم تكن تركيا هي من طلبت استضافة المحادثات بشأن برنامج إيران النووي، بل كان الجانب الإيراني هو الذي جاء بهذا الاقتراح خلال زيارة أردوغان لطهران، وقال وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي، على هامش لقائه مع أردوغان، إن الجمهورية الإسلامية تفضل إجراء المفاوضات مع الدول الكبرى حول برنامج طهران النووي في مدينة إسطنبول، وأضاف: ''وجهة نظري الشخصية هي أن إسطنبول هي المكان الأفضل''.
التغير المفاجئ الذي طرأ على تصريحات المسؤولين الإيرانيين بشأن مكان المحادثات وهجومهم على اجتماع مؤتمر ''أصدقاء الشعب السوري''، دفع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى انتقاد إيران بلهجة شديدة غير مسبوقة، وقال إن إيران غير مخلصة في أفعالها وتفتقر إلى الأمانة، ودعا طهران إلى التصرف بـ''صدق''، وأضاف: ''يجب أن نكون أمناء.. بسبب نقص الأمانة هم دائمًا يخسرون مكانتهم الدولية''.
هذه اللهجة التي استخدمها أردوغان لأول مرة في الهجوم على إيران، تشير إلى أن استياء أنقرة من الاستفزاز الإيراني وصل إلى مستوى لا يمكن أن تتحمله، وأن الكيل طفح، والسيل بلغ الزبى لدى رئيس الوزراء التركي. ومن المتوقع أن تتجه العلاقات التركية - الإيرانية بعد التصريحات الأخيرة للقادة الإيرانيين والأتراك نحو مزيد من التأزم والتوتر في ظل تمسك الحكومتين بموقفيهما من الأزمة السورية، خاصة بعد أن كسر أردوغان حاجز الخوف من انتقاد إيران واتهمها بأنها غير أمينة وغير صادقة. ولعل من مؤشرات ذلك، بدء الحكومة التركية بتخفيض وارداتها من النفط الخام الإيراني بنسبة 10 في المائة، على أن تزيد هذه النسبة إلى 20 في المائة خلال الشهر الحالي.
الحقيقة أن السياسة الإيرانية لم تكن يومًا من الأيام تتسم بالأمانة والصدق، بل كانت السمات البارزة فيها المكر والخبث والخداع والتآمر على القريب والبعيد، وعُرفت إيران باستخدام استراتيجية الشطرنج في الدبلوماسية والسياسة الخارجية بمهارة. ولسنا في حاجة إلى استحضار التاريخ وتذكير الصراع الطويل بين الصفويين والعثمانيين لإثبات ذلك، ولا داعي له، بل يكفينا التأمل في السلوك الإيراني منذ ثورة الخميني ودراسة تعامل طهران مع جيرانها لنعرف أن الصدق والأمانة من أبعد الخصال عن السياسة الإيرانية. والدور الإيراني في احتلال أفغانستان والعراق، وتعاون طهران مع واشنطن لتسهيل سقوط بغداد وكابول، كما اعترف به غير واحد من المسؤولين الإيرانيين، ليس ببعيد عن ذاكرة شعوب المنطقة.
وقد يقول البعض إن السياسة الخارجية مبنية على البراغماتية، ولا مكان فيها للمبادئ والقيم، إلا أنني أعترض على ذلك، وأرى أن السياسة الخارجية أيضًا يجب أن تكون في إطار المبادئ والقيم الخاصة بها، وأن العلاقات بين الدول يفترض أن تكون مبنية على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل والالتزام بالاتفاقيات والعهود.
التاجر الطماع الجشع الذي لا يفرق بين الحلال والحرام لا يشبع، وكل ما يهمه أن يكسب دائمًا وبأي طريقة كانت، وأن يضخِّم ثروته أكثر فأكثر. وهكذا تصرفت إيران في ظل نظام الملالي مثل التاجر الطماع الجشع لتوسيع نفوذها في المنطقة على حساب الأمن والاستقرار، وباعت دماء الآخرين وأرواحهم لتشتري في المقابل بعض المصالح، أو لتخفف الضغوط التي تُمارَس عليها، ولم تبالِ بتمزيق المجتمعات وتدمير الأوطان. ومن ثَمَّ فقدت ثقة الجميع وأصبحت دولة لا يُؤْمَنُ من شرها.. هذه حقيقة لا ينكرها إلا جاهل أو مغفل أو مرتزق.
العلاقات التركية - الإيرانية كانت متأزمة منذ اندلاع الثورة في سورية، ومن المتوقع أن تشهد في الأيام القادمة مزيدًا من التأزم والتدهور، وموقف طهران من الثورة السورية هو ما سيحدد حجم هذه الأزمة وأبعادها؛ لأن تركيا لن تستعدي جارتها ولن تستهدفها، وليس من سياستها الخارجية خلق المشكلات مع جيرانها والتآمر عليها، لكن في الوقت نفسه لن تسكت أنقرة على جرائم بشار الأسد لسواد عيون الإيرانيين. وإن كان النظام الإيراني يتمسك بالنظام الأسدي ويواجه باسمه أصدقاء الشعب السوري فهذا شأنه واختياره، لكن وجود إيران على الخط واحتمال الاصطدام معها لن يدفع تركيا بعد الآن إلى التراجع عن دعمها لانتفاضة الشعب السوري.
وقد يلجأ مسؤولون إيرانيون إلى بعض التصريحات والمجاملة لتخفيف حدة التوتر بين البلدين إعلاميًّا، إلا أن الصراع المؤجل والمجمَّد خرج من الثلاجة، والظروف الإقليمية الراهنة لا تسمح بتأجيله أكثر من ذلك وإعادته إلى الثلاجة مرة أخرى.