أردوغان وصحيفة «طرف» وجبهة الديمقراطية

تنشر صحيفة ''طرف'' التركية منذ فترة ما يتعلق بتركيا من وثائق ويكيليكس والرسائل المسربة من شركة ستراتفور التي تقدم تحليلات سياسية مدفوعة الأجر لمشتركيها ومقرها في الولايات المتحدة، ومن ضمن ما نشرته الصحيفة رسالة مرسلة من موظف إلى زميله في شركة ستراتفور تفيد بأن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مصاب بالسرطان ولن يعيش أكثر من عامين.
هذه الرسالة التي نشرتها الصحيفة تحت عنوان عريض في صفحتها الأولى، فجَّرت نقاشًا حادًّا بين الكتاب المقربين من الحكومة وصحيفة ''طرف'' حول مهنية نشر مثل هذه الأخبار وأخلاقيته، واتهمت الصحف والمواقع الموالية لحزب العدالة والتنمية صحيفة ''طرف'' بإثارة الفتنة ونشر الأكاذيب وترويج الإشاعات، بل ذهبت بعضها إلى أبعد من ذلك متهمة إياها بالعمالة لمصلحة الصهاينة.
وأمام هذه الاتهامات، دافعت الصحيفة نفسها بأن ما فعلته لم يكن منافيًا لأخلاقيات الصحافة ومبادئها، بل كان ما تقتضيه المهنية الإعلامية، حيث تنشر هذه الوثائق بالتزامن 28 صحيفة ومجلة في أنحاء العالم، كما أنها نشرت مع الرسالة المتعلقة بمرض أردوغان نفي الأطباء إصابة رئيس الوزراء التركي بالسرطان، متمنية له بالصحة والعافية.
أردوغان نفسه، دخل على الخط في هذا النقاش، واصفًا صحيفة ''طرف'' بـ''صندوق موسيقا يعمل بعملة معدنية يمكن أن يستخدمها كل من يضع العملة فيه''، لكن رئيس تحرير الصحيفة أحمد آلطان رد عليه بمقال ناري، لافتًا إلى العلاقة الوثيقة بين إبراهيم كالين، كبير مستشاري رئيس الوزراء التركي، وشركة ستراتفور للاستخبارات والتحليلات الاستراتيجية، التي يُطلَق عليها ''وكالة المخابرات المركزية في الظل'' ومذكِّرًا بأن رئيس مجلس إدارة الشركة جورج فريدمان يصف إبراهيم كالين بـ''أهم مصدر له في تركيا''.
انطلاق صحيفة ''طرف'' في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 2007 شكَّل قفزة نوعية للصحافة التركية، ودعمًا قويًّا لجهود حكومة أردوغان في سبيل تعزيز الديمقراطية والحد من تدخل الجنرالات في الشؤون السياسية، ولعبت الصحيفة دورًا بالغ الأهمية في كسر حاجز الخوف من سطوة المؤسسة العسكرية والكشف عن محاولات الانقلاب على الحكومة، وكان وقوف صحيفة ليبرالية بجانب حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية في معركته بمنزلة سحب البساط من تحت أقدام القوى الانقلابية المتسلطة التي دأبت في تضليل الرأي العام على تصوير الصراع بين الإسلاميين الذين يريدون القضاء على النظام العلماني الديمقراطي والقوى الأخرى التي تسعى للحفاظ عليه. ولم يكن بإمكان الإسلاميين استخدام اللهجة الشديدة الصارمة التي استخدمتها صحيفة ''طرف'' في مواجهة الجنرالات ومحاولات الانقلاب على الإرادة الشعبية.
ليس مقبولاً من صحيفة ''طرف'' أن تفرض وصاية على الحكومة التركية بحجة أنها دعمتها في محنتها، كما أنه من الإجحاف اتهام الصحيفة بمحاولة فعل ذلك لمجرد انتقادها أخطاء الحكومة من وجهة نظرها. وإن كان الموالون للحكومة التركية يرون أن لهجة الصحيفة ورئيس تحريرها تجاه أردوغان قاسية، فعليهم ألا ينسوا أن اللهجة نفسها كانت مستخدمة تجاه رئيس الأركان التركي وكبار الضباط.
وقد يرغب أردوغان والموالون له في ألا ينتقد أحد الحكومة ورئيسها أو تغض وسائل الإعلام عن بعض الحقائق، لكن انتقاد أخطاء الحكومة ومراقبة أدائها باسم الشعب وكشف الحقائق بغض النظر عن كونها لمصلحة هذا الطرف أو ذاك، من أهم وظائف الصحف ووسائل الإعلام الأخرى. فصحيفة ''طرف'' قد تصيب في انتقادها أو تخطئ، لكنها ليست من الصحف التي تنصب العداء لحزب العدالة والتنمية وتنتقد حكومة أردوغان في خطئها وصوابها. ولا شك في أن وجود مثل هذه الصحف الجريئة - سواء كنا نتفق معها أو نختلف - مكسب كبير لتركيا، بل هو ضروري في الأنظمة الديمقراطية التي لا حصانة مطلقة لأحد فيها.
المطبِّلون الذين هاجموا صحيفة ''طرف'' في هذا النقاش دفاعًا عن رئيس الوزراء التركي ورجاله سقطوا في اختبار حرية الصحافة ومارسوا الازدواجية؛ لأنهم اتهموا الصحيفة بخدمة مؤامرة شركة ستراتفور ''المرتبطة بالصهاينة وإسرائيل''، لمجرد نشرها بالتزامن مع 28 وسيلة إعلام عالمية الوثائق المسربة، لكنهم نسوا أو تناسوا أن كبير مستشاري أردوغان هو من سعى لتأسيس التعاون بين شركة ستراتفور وصحيفة ''صباح'' المقربة من الحكومة التركية.
التيار الديمقراطي الليبرالي الذي تمثله صحيفة ''طرف'' كان عنصرًا أساسيًّا في جبهة الديمقراطية التي وقفت في وجه جبروت القوى المتسلطة على إرادة الشعب، وشريكة لحزب العدالة والتنمية الحاكم وجماعة فتح الله كولن في هذه المهمة، وبعد تراجع نفوذ العسكر بدأت الخلافات تظهر إلى العلن بين هذه الأطراف الثلاثة التي تختلف أيديولوجياتها، إلا أن تركيا ما زالت في حاجة إلى تكاتف القوى الديمقراطية لاستئصال خطر الانقلابيين وترسيخ الديمقراطية وتعزيز الحريات؛ ولهذا من الأفضل أن تظل جبهة الديمقراطية هذه صلبة وموحدة على الأقل في هذه المرحلة الانتقالية حتى تصل تركيا إلى ديمقراطية كاملة بدستور جديد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي