مَنْ يستهدف رئيس الاستخبارات التركية؟
تشهد تركيا في الأيام الأخيرة عاصفة تهز جهاز الاستخبارات التركية جراء استدعاء المدعي العام صدر الدين صاري قايا، رئيس الاستخبارات هاكان فيدان للإدلاء بأقواله بصفته مشتبهًا به في قضية اللقاءات مع قادة حزب العمال الكردستاني وتسهيل تواصلهم مع زعيم الحزب عبد الله أوجلان في سجنه من خلال رسائل مكتوبة، إضافة إلى قضية اختراق الجناح المدني لحزب العمال الكردستاني، وأنه علم مسبقًا من خلال عملاء زرعوا في التنظيم، بهجمات شنها الإرهابيون من دون الإبلاغ عنها.
الاستدعاء المفاجئ أثار نقاشًا واسعًا حول قانونيته والهدف منه، وأُطلق العنان للأفكار في نسج السيناريوهات، وكثرت الأسئلة والتكهنات، وتداخلت الآراء والتفسيرات، ما أدى إلى تعكير المياه وتكثيف الضبابية وانعدام الرؤية وصعوبة التقييم والتحليل. هل هناك من يستهدف رئيس الاستخبارات التركية؟ ولماذا؟ وهل هناك صراع بين الأجنحة داخل الجهاز؟ وهل هي معركة النفوذ بين الحزب الحاكم وجماعة فتح الله كولن؟ وهل هي مناورة جديدة لشبكة أرغنيكون ضد حكومة أردوغان؟ وأسئلة أخرى كثيرة تُطرَح لفهم أبعاد الأزمة، ولكن الأجوبة غير واضحة حتى الآن.
ويعود أصل الاتهام إلى تسجيل صوتي لجلسة مفاوضات بين فيدان ومسؤولين من الاستخبارات التركية وعدد من قادة حزب العمال الكردستاني عقدت في أوسلو عام 2007 برعاية دولة أخرى، ولم يكن فيدان آنذاك رئيس الاستخبارات، بل كان يشغل منصب مستشار رئيس الوزراء للشؤون الأمنية. وكانت تلك المفاوضات تجري بعلم الحكومة التركية بهدف الوصول إلى حل سلمي في المشكلة الكردية ودفع حزب العمال الكردستاني إلى إلقاء السلاح، إلا أنها فشلت، وتم تسريب تسجيل صوتي لجزء مما دار الحديث عنه في أثناء المفاوضات عبر الإنترنت من قبل جهة مجهولة، إلا أن مصادر إعلامية تركية تؤكد أن إسرائيل تقف وراء هذا التسريب لإحراج رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان والحكومة التركية معًا.
لم تكن القيادة الإسرائيلية تخفي انزعاجها من تولي هاكان فيدان المقرب من رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان رئاسة الاستخبارات التركية، حيث قال وزير الدفاع الإسرائيلي أيهود باراك في أثناء اجتماع لحزب العمل الذي كان يترأسه: ''إن تركيا بلد صديق وحليف استراتيجي، لكن تعيين رئيس جديد لأجهزة المخابرات التركية نصير لإيران يقلقنا''، مضيفا أن تعيين هاكان فيدان قد يسمح للإيرانيين بالحصول على معلومات سرية.
اتهام القيادة الإسرائيلية الرئيس الجديد للاستخبارات التركية بـ''نصرة إيران'' مجرد شماعة للتغطية على القلق الحقيقي لدى الإسرائيليين، وهو تطهير الاستخبارات التركية من عناصر موالية لإسرائيل، وكشف العمليات التي تورط فيها الموساد داخل تركيا، وأن تتحول الاستخبارات التركية برئاسة فيدان إلى جهاز منافس قوي في المنطقة.
الحكومة التركية حققت نجاحات باهرة في المجال الاقتصادي، وتبنت سياسة الانفتاح على جميع الاتجاهات بدءًا من جيران تركيا وصولاً إلى العالم العربي والقوقاز وآسيا الوسطى وإفريقيا وحتى أمريكا اللاتينية دون إهمال مساعي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وكان من الضروري إعادة بناء الاستخبارات التركية بقيادة رئيس جديد مقرب من الحكومة وتقسيمها في المستقبل إلى جهازين أحدهما للداخل والآخر للخارج على غرار مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة المخابرات المركزية، لتعزيز حضور الاستخبارات التركية في المناطق الساخنة، لتلبي حاجات الدور التركي المتنامي.
ولتحقيق هذا الهدف، تم تعيين هاكان فيدان على رأس الاستخبارات التركية في 27 أيار (مايو) 2010، أي قبل أيام من الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية المتجهة إلى قطاع غزة. وكان فيدان قد ترأس في السابق الوكالة التركية للتعاون والتنمية، كما شغل منصب وكيل الشؤون الخارجية لدى رئيس الوزراء التركي، ومَثَّل تركيا لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو من المقربين لوزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو.
ولما نُشر على الإنترنت التسجيل الصوتي للمفاوضات مع قادة حزب العمال الكردستاني، أعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان دعمه لرئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان، مؤكدًا أنه لن يسمح بتقديمه ضحية، وبعد استدعاء المدعي العام هاكان فيدان، جددت الحكومة دعمها له على لسان نائبي رئيس الوزراء، حيث قال بولنت أرينتش: إن استدعاء رئيس الاستخبارات للتحقيق في القضية، غير منطقي وغير قانوني، معتبرًا أنه لا يحق للمدعي العام محاسبة رئيس الاستخبارات على واجبات عمله، كما شدد بكير بوزداغ، على أن اتصال الاستخبارات بالتنظيمات الإرهابية لاختراق صفوفها لا يشكل جريمة، بل هو من واجباتها الأساسية لجمع المعلومات.
هناك من يرى أن ما يجري محاولة لتصفية هاكان فيدان تقف وراءها شبكة أرغنيكون وقوى خارجية، يقصدون بها إسرائيل والولايات المتحدة، ولكن آخرين يرون أن الأزمة سببها الصراع الداخلي في الاستخبارات التركية بين جناحين أحدهما يؤيد سياسة المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني، والآخر يعتبرها خطرًا في هذه المرحلة على الأمن القومي، ويدعو إلى الجلوس على الطاولة بعد توجيه ضربات متتالية إلى المنظمة الإرهابية.
ومما لا شك فيه أن أجهزة الاستخبارات التركية في حاجة إلى عملية تطهير واسعة للتخلص من عناصرها المتورطة في بعض الجرائم أو الموالية لجهات أخرى، بغض النظر عن استهداف رئيس الاستخبارات أو من يقف وراءه، ولعل إبعاد مدير إقليمي عن الاستخبارات التركية واعتقاله لتورطه في تسليم المقدم حسين هرموش إلى النظام السوري خير دليل على ضرورة عدم التسرع في تقديم صك البراءة ومنح الحصانة لها لمجرد أن رئيسها من رجال حكومة أردوغان. أما الأزمة الحالية المتعلقة باستدعاء فيدان، فالأيام كفيلة بكشف ملابساتها بعد انجلاء الغيوم والضباب واتضاح الرؤية.