أزمة الاقتصاد العالمي وتأثيرها في الاقتصادات الآسيوية

مما لا شك فيه أن ما يمر به الاقتصاد العالمي حاليا من متاعب وهشاشة غير مسبوقة منذ أزمة الديون العالمية في عامي 2008 و2009، له وقع وتأثير سلبي في الاقتصادات الآسيوية الصاعدة منها والناشئة، وخصوصا تلك التي تعتمد بشكل مكثف على التصدير إلى الخارج كالاقتصادات السنغافورية والكورية الجنوبية والصينية. وربما كان الاستثناء الوحيد في هذا السياق هو الاقتصاد الإندونيسي الذي يعتمد بصورة رئيسة على التصدير إلى دول منظومة آسيان الجنوب شرق آسيوية.
ويمكن القول إن السنغافوريين أكثر تضررا من الكوريين الجنوبيين لأنهم يعتمدون في التصدير إلى السوقين الأمريكي والأوروبي، في الوقت الذي يعتمد فيه الكوريون على الصين بثلاثة أضعاف ما يعتمدون فيه على أسواق أوروبا وأمريكا الشمالية، علما بأن قطاع الصادرات الكوري الذي يساهم بنحو نصف حجم الناتج المحلي الإجمالي لهذا البلد، قد يواجه تحديات أخرى مصدرها الأسواق المحلية، كنتيجة انخفاض معدلات استهلاك المواطنين بسبب وقوع شريحة معتبرة منهم تحت ضغوط التضخم والديون المتراكمة. أما الاقتصاد الصيني، الذي يمثل ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، فهو الآخر يعتمد إلى حد كبير على التصدير ولا سيما إلى الأسواق الأمريكية والأوروبية (صادراته إلى الولايات المتحدة في عام 2010 مثلا بلغت قيمتها 383.3 مليار دولار)، مما جعله في وضع صعب، وإن لم تكن الصعوبات كما في الحالتين الكورية والسنغافورية.
وإذا ما أردنا الدخول في تفاصيل أدق لأوضاع الاقتصادات الآسيوية الثلاثة كأمثلة لما يجري في شرق آسيا، نجد أن معظم التوقعات السابقة حول أدائها في عام 2012 تغيرت الآن. ففي سنغافورة، التي لا يزال اقتصادها متماسكا، يتوقع المنتجون نموا في حدود 5.4 في المائة بدلا من 8 في المائة، ويتوقع قطاع الإنشاءات والمقاولات نموا في حدود 2.1 في المائة بدلا من 3.5 في المائة، ويتوقع قطاع الفندقة والترفيه نسبة نمو في حدود 3 في المائة بدلا من 6.9 في المائة. وبسبب هذه التراجعات هناك توقعات بازدياد معدلات البطالة من 2 في المائة إلى 2.2، مع انخفاض الأجور. غير أن التوقعات حول أداء قطاع المصارف والخدمات المالية غير ذلك. إذ يتوقع له نمو بنسبة 9.6 في المائة، مرتفعا من 8.8 في المائة، وذلك بسبب ارتفاع الطلب من دول الجوار الآسيوي على قطاع الخدمات السنغافوري المتميز. أما الحصيلة النهائية، كما ورد في التقرير السنوي للسلطات النقدية السنغافورية، فهي نمو عام في سنة 2012 بنسبة تراوح بين 3 و5 في المائة، علما بأن نسبة النمو المستهدفة في الربع الأخير من عام 2011 كانت 6 في المائة.
وبالنسبة لكوريا الجنوبية التي يعد قطاعها الخدمي والمصرفي والسياحي ذا مساهمة أقل في اقتصادها، أي على خلاف سنغافورة، فهناك مخاوف كبيرة من تراجع نموها، خصوصا في ظل تعرض أسواق الأسهم والسندات فيها إلى خسائر تجاوزت 18 في المائة ما بين أوائل آب (أغسطس) وأوائل تشرين الأول (أكتوبر) الماضيين، وهو ما أدى إلى انسحاب العديد من أصحاب الاستثمارات الرأسمالية منها، وإحجام المستثمرين الجدد من الذهاب إليها تحسبا من تراجعات أكبر للاقتصاد الكوري الجنوبي إذا ما استمر عجز الاقتصاد العالمي وتأخر شفائه.
ورغم أن صادرات كوريا الجنوبية إلى العالم من المنتجات الصناعية المختلفة لم تتأثر كثيرا بالأزمة الأوروبية، كونها تعتمد على أسواق الصين أكثر بثلاث مرات من اعتمادها على أسواق منطقة اليورو كما سبق أن ذكرنا، فإن المتابعين يتوقعون تراجعها بصورة كبيرة في الربع الأول من عام 2012 استنادا إلى رؤية تقول إن المتاعب الشرائية التي يواجهها المستهلكان الأمريكي والأوروبي سوف تزداد إلى الدرجة التي تحجم معها الشركات التجارية في أوروبا وأمريكا الشمالية عن استيراد البضائع الكورية المصنعة، وتوجه أنظارها إلى مصادر أقل تكلفة وأخفض سعرا.
وأشارت أرقام نمو الاقتصاد الكوري الجنوبي إلى أن وضع الأخير في الربع الأخير من العام المنصرم كان مطمئنا نسبيا (انخفض من 3.6 إلى 3.2 في المائة)، بل قريبا أيضا بصورة عامة من نسبة النمو المستهدفة وهي 3.7 في المائة. غير أن ما لا يجب تجاهله هنا هو أن تلك الوضعية كانت أقل بكثير مما تمتع به الكوريون من نمو اقتصادي خلال الأرباع الأول والثاني والثالث من عام 2011 حينما بلغ معدله 6.2 في المائة.
ويشكل الاقتصاد الصيني حالة خاصة ومختلفة فهو مهدد بتراجع نموه في عام 2012 أي على نحو ما حدث أثناء الأزمة المالية العالمية في عام 2008 حينما انخفض نموه للمرة الأولى خلال ثلاث سنوات إلى ما دون 10 في المائة. وما يحدث لهذا الاقتصاد من تراجع نسبي الآن ليس فقط بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية وما تسببه هذه الأزمة من انخفاض الطلب على صادراتها (عصب ومحرك نموها الاقتصادي المدهش)، وإنما أيضا بسبب عوامل أخرى مثل اشتراط بعض الدول الرئيسة المستوردة توفر معايير الجودة والسلامة في البضائع الصينية، وقيام بعضها الآخر باتباع سياسات حمائية منعا لإغراق أسواقها بالبضائع الصينية الرخيصة. هذا ناهيك عن بروز مشكلات أخرى مثل ارتفاع أسعار المواد الخام ولجوء العمالة الصينية إلى الإضرابات المتكررة كوسيلة لإجبار أرباب الأعمال على رفع أجورهم بما يتناسب مع نسب التضخم المتصاعدة.
ولمواجهة المصاعب التي تواجه قطاع التصدير الصيني، الذي تراجع نموه من 31 في المائة في عام 2010 إلى 21 في المائة في الفترة ما بين كانون الثاني (يناير) وتشرين الثاني (نوفمبر) 2011، وينتظر أن ينخفض أكثر خلال عام 2012، باشرت بكين العمل على أكثر من جبهة. فهي في الوقت الذي تبحث فيه عن أسواق جديدة لصادراتها، تعمل على إبقاء سعر صرف عملتها الوطنية (اليوان) مقابل الدولار منخفضا، علّ ذلك يغري ويشجع المستورد الأمريكي على الاستمرار في طلب المنتج الصيني. كما أنها - بحسب بعض التقارير - تحاول تسويق ما فشلت في تصديره ضمن الأسواق الداخلية، وذلك من خلال تحسين أوضاع مئات الملايين من العاملين في القطاع الزراعي كي يتمكنوا من تحقيق دخول جيدة تتيح لهم مزيدا من الإنفاق على البضائع الاستهلاكية، ولا سيما الإلكترونية التي يتعطش أبناء الريف إلى امتلاكها والتمتع بترفها. ومن الأساليب الأخرى التي بدأت بكين انتهاجها أملا في معالجة مشكلات قطاع التصدير، دفع بعض المصانع الصينية إلى تغيير خطوط إنتاجها، مثل الانتقال من إنتاج البضائع الإلكترونية إلى إنتاج الأدوية والأجهزة الطبية. فهذه الأخيرة لئن كان الطلب العالمي عليها أقل حجما، فإن أرباحها مضاعفة، خصوصا مع تزايد أعداد الجرحى والمصابين في العالم النامي من جراء موجات العنف والتدمير.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي