ذكرى وحشية الاحتلال الفرنسي تُبقي الجزائر بعيدة عن مد الربيع العربي
في عام الربيع العربي، اندفع الاضطراب الاجتماعي، والثورة السياسية، والحرب الأهلية عبر بلدان منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط تباعًا. غير أن النظام القديم في الجزائر يظل صامدًا على نحو متحد. واندلعت التظاهرات، والاحتجاجات في أوائل هذا العام، الأمر الذي دفع السلطات إلى رفع حالة طوارئ دامت 19 سنة. ولكن على النقيض من مصر، وليبيا، وسورية، وتونس، فإن القوات المسلحة الجزائرية، وقوات الأمن – المؤسستان اللتان لديهما قوة صلبة خلف واجهة من رئاسة مدنية – لم تتدخلا، ولم تصبحا تحت كثير من ضغوط المجتمع الدولي لكي تتدخلا.
ما الذي يجعل الأمر بهذه الصورة؟ أحد الأسباب هو أن الجزائريين يحتفظون بذكريات أليمة عن القتال الذي اندلع بين النظام، وخصومه السياسيين في التسعينيات، وهو نزاع بالغ القسوة أدى إلى مقتل مائتي ألف شخص على الأقل، وشهد انتهاكات لحقوق الإنسان، دون تمييز، من قبل جميع الأطراف. وهنالك سبب آخر لذلك، وهو أن حكام الجزائر المستبدين المدعومين بالعوائد النفطية الكبيرة، أظهروا تصميمًا متواصلًا، منذ 50 عامًا، على عدم إرخاء قبضتهم على السلطة. وأما السبب الثالث، فهو أن العالم الخارجي – ولا سيما فرنسا المستعمرة السابقة للجزائر – ظل على الحياد تقريبًا.
لكل من هذه التفسيرات جذوره في حكم فرنسا للجزائر الذي امتد 132 عامًا، وتوجته حرب الاستقلال في الفترة من 1954 – 1962، وهو قد جاء أكثر من غيره مجسدًا انسحاب أوروبا المضطرب من إمبراطوريتها الخارجية. وكما يكتب مارتن إيفانز: ''كانت الجزائر أحد أطول، وأصعب الحلقات في العملية الكاملة للتخلص من الاستعمار. وكانت تجسيدًا للإنهاء الرسمي للإمبراطوريات الأوروبية، وحدثًا بالغ الأهمية في تشكيل القرن العشرين، حيث ارتبط، على نحو وثيق، بعمليات رئيسة أخرى، أي أثر الحربين العالميتين، والحرب الباردة، والقومية العربية، والحركة الأوسع المقاومة للاستعمار، والتحرك باتجاه الوحدة الأوروبية الغربية''.
تركت الحرب ندوبًا دائمة على السياسة، والمجتمع الفرنسيين كذلك. وأطلقت هروب 1.1 مليون شخص من المستوطنين الشاعرين بالمرارة إلى فرنسا، حيث اعتنق كثير منهم من فترة لاحقة الأفكار المعادية للهجرة، وشعبوية اليمين المتطرف التي يمثلها جان ماري لو بين الذي دخلت ابنته مارين سباق الانتخابات الرئاسية الفرنسية كممثلة للجبهة الوطنية. وغادرت أعداد كبيرة من المسلمين الجزائريين إلى فرنسا في أثناء، وبعد الحرب، حيث حازوا الجنسية الفرنسية، وأنشأوا أُسرًا لم تجد أن من السهل عليها الاندماج في المجتمع الفرنسي، ولكنها مع ذلك تعيد تشكيل الهوية الوطنية. وكشفت احتجاجات عام 2005 في ضواحي المهاجرين المهملة كيف أن ''متلازمة جزائرية'' لا تزال تعم أجزاء مهمة من الحياة الفرنسية.
هنالك ثلاثة كتب تلتقط على نحو مثير للإعجاب روح بواكير الاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا، والكراهية بين الحكام والمحكومين التي أطلقت شعورًا وطنيًا جزائريًا شرسًا، وغير قابل للتنازل، وكذلك العملية التي كان مصير تصورات فرنسية لمجتمع يتمتع بالرخاء، والانسجام، ويعيش فيه المستوطنون، والمواطنون المسلمون، جنبًا إلى جنب، هو الانهيار في حالة من الدمار الشامل.
كان مثل هذه الآمال مهمًا للغاية في تكوين النظرة الإنسانية السياسية لدى ألبير كامو، الروائي وكاتب المسرحيات، والمقالات الفرنسي الذي ولد في الجزائر، كما أنه كتب بعض أهم كتاباته، مثل ''الطاعون The Plague''، و''الخارجي The Outsider ''، في الجزائر.
كتاب ألبير كامو: ''كلمات وصور Words and Pictures '' الذي هو عبارة عن تقدير حميم لحياة هذا المؤلف، أعدته ابنته كاثرين، يضم مئات الصور، والذكريات الأخرى لكامو في أثناء عمله، وبرفقة أسرته. وهو يعززها بمقاطع من كتاباته التي يذكرنا بعضها كيف يستنكر بعاطفة صادقة إراقة الدماء خلال السنوات الأخيرة للوجود الفرنسي في الجزائر. ''لم أكتب أي شيء غير مرتبط، بطريقة أو بأخرى، بالأرض التي ولدت عليها. ولذلك تم توجيه أفكاري لهذه الأرض، وجوانب معاناتها''، حيث وردت هذه الكلمات في أثناء تسلمه لجائزة نوبل عام 1957.
ذلك، فإنه حتى قبل عشر سنوات من اندلاع القتال عام 1954، كان هنالك توقع متقلص على الدوام بأن الجزائر ستتجاوز العداوات التي فرّقت بين المواطنين، وحكامهم الفرنسيين، وبصفة أخص، بينهم وبين المستعمرين: المستوطنون الأوروبيون الذين ينحدرون في معظمهم من أصول فرنسية، ولكنهم يضمون أناسًا من أصول إسبانية، ويونانية، وإيطالية، ومالطية، حيث وصلت عائلاتهم إلى الجزائر بعد الغزو الفرنسي الأصلي عام 1830. ويصف إيفانز في كتابه ''الجزائر: حرب فرنسا غير المعلنة Algeria: France’s Undeclared War '' التظاهرات العنيفة في شرق الجزائر عام 1945، بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية في أوروبا، حيث قتل فيها أكثر من 100 من المستعمرين ''كان معظم ذلك عنفًا مباشرًا فجًا تبعته عمليات تقطيع أوصال، حيث قطعت الأعضاء التناسلية وأدخلت في أفواه الجثث، وتم كذلك اجتثاث الأثداء، وقطع الأعناق، وبقر البطون''.
لم يكن الانتقام الفرنسي أقل وحشية، إذ أدى إلى ذبح آلاف من الجزائريين، وتدمير مقصود للقرى. ويلاحظ إيفانز ذلك كاتبًا ''لا يمكن أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه مرة أخرى. ولقد واجهت الجزائر الريفية الجزائر الأوروبية، الأمر الذي أدى إلى مجتمع أشد استقطابًا مما كان عليه خلال أي فترة أخرى''.
كتب إيفانز بصفته أستاذًا للتاريخ المعاصر في جامعة بورتسماوث في المملكة المتحدة، وكاتبًا فذًا في التاريخ الجزائري، ما يمكن أن يوصف بأنه أفضل سجل لحرب الاستقلال باللغة الإنجليزية. وقد ظل هذا الشرف، لسنوات عديدة، من نصيب أليستير هورن في كتابه الذي نشره عام 1977 بعنوان ''حرب وحشية من أجل السلام A Savage War of Peace ''، وهو سرد قوي ما زال يستحق إعادة طباعته في هذه الأيام. غير أن مرور الوقت مكّن إيفانز من الاستفادة من مصادر أرشيفية مصنفة من قبل، وشهادات شفوية جديدة، لإنتاج تاريخ يحدد معايير جديدة مزجت معًا خيوط حضارة المدن الفرنسية، والإفريقية الشمالية للقصة.
إن تقديرًا لمدى التشويه الذي أحدثته الحرب على القادة الفرنسيين، والشعب الفرنسي، يجب أن يبدأ بالاعتراف من وجهة النظر الفرنسية، بأن الجزائر لم تكن مجرد مستعمرة، ولكنها جزء مكمل للأمة. وكانت هياكلها الإدارية منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر مماثلة للهياكل المطبقة في فرنسا، حيث كانت تتكون من إدارات، وولايات، وكميونات. وكان احتمال انفصال الجزائر عن فرنسا أقرب إلى الأمور التي لا يمكن التفكير فيها، حيث كان قريبًا من عملية فقدان طرف من الأطراف.
غير أن فكرة أن الجزائر لم تكن مختلفة في الأصل عن بريناني، أو لانغيدوك، كانت مجرد خيال. وكان الميثاق الوطني ''مجموعة من القوانين القمعية، على نحو غريب، التي طبقت فقط على المسلمين'' كما يكتب إيفانز ''كانت الجزائر الفرنسية معزولة عنصريًا. وكان الإقصاء مبدأً محددًا. وأدى الفصل السياسي إلى فصل فعلي. وعاش الأوروبيون، واليهود، والمسلمون في أماكن مختلفة، حيث كانوا يتعايشون معًا، ولكن دون اختلاط متبادل. وكانت حالات الزواج بين هذه المجموعات المختلفة نادرة بالفعل، وأدى ذلك إلى مجتمع عميق الانقسام، وفيه حالة عدم مساواة عميقة، ويتصف بالكراهية، والنزاع، والتوتر''.
لماذا لم يستطع المستوطنون المضي في طريقهم، وتشكيل دولة مستقلة كما كانت حال 13 مستعمرة بريطانية في أمريكا عام 1776؟. إن الأمور السكانية تقدم لنا الإجابة، حيث ارتفع عدد السكان المسلمين سريعي النمو عام 1954 إلى 9 ملايين نسمة، أي أنهم كانوا يتفوقون على الفرنسيين بنسبة 9 إلى 1. وكان المستوطنون بحاجة إلى حماية الشرطة، والجيش، وكل الجهات الأخرى، كما أنهم كانوا يعرفون ذلك.
انتظر الأمر حتى عام 1999 لكي تعترف الجمعية الوطنية الفرنسية، وهي جهة التشريع في البلاد، رسميًا، بأن القتال الجزائري من أجل الاستقلال كان حربًا. وكانت الدولة الفرنسية تصف ذلك القتال، في أثناء النزاع، بأنه ''مقاومة للعنف''، أو ''المحافظة على القانون، والنظام''. ومن هنا جاء عنوان كتاب إيفانز ''حرب فرنسا غير المعلنة France’s Undeclared War ''. والواقع أنها كانت حربًا، بل حتى أكثر من حرب. وإلى أن أخلت الجمهورية البرلمانية الرابعة غير الفعالة السبيل عام 1958 للرئاسة شبه الملكية بزعامة شارل ديغول، فقد كان صراعًا رأت السلطات أن نتيجته بالغة الأهمية بالنسبة إلى موقف فرنسا كقوة دولية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
نتيجة لشعور فرنسا بالإذلال بسبب الهزيمة، واحتلال النازيين لها في الفترة من 1940 – 1944، فقد نظرت، بعد عقد من ذلك، إلى السيطرة على الجزائر كأساس لإعادة إحياء اتحاد فرنسي – إفريقي يمتد على طول الطريق من باريس إلى مستعمرات فرنسا في غرب، ووسط إفريقيا. وإن من شأن النصر أن يقطف الثمار المزدوجة لتعزيز مساهمة في التحالف الغربي المواجه للاتحاد السوفيتي، والأكثر براعة من ذلك، تمكين فرنسا من تحسين منافستها ضد ''الاستعمار الأنجلو – ساكسوني'' من جانب بريطانيا، والولايات المتحدة.
إن ما دمر هذه الرؤية ليس فقط الالتزام الذي لا يموت بالاستقلال من جانب جبهة التحرير الوطنية، الحركة الجزائرية المعادية للاستعمار، ولكن كذلك الفظائع التي ارتكبتها القوات المسلحة الفرنسية، ولا سيما خلال معركة الجزائر عام 1957. وكان ذلك أسوأ فصول الحرب سمعة، حيث تم تخليده بفيلم جيلو بونتيكورفو عام 1966. وأدت الممارسات القذرة إلى إلحاق الأذى الشديد بصدقية السياسة الفرنسية، وليس أقله في أعين الرأي المعتدل في فرنسا. وكان تعذيب الجزائريين منتشرًا إلى درجة أن جعل أحد ضباط الفرقة الفرنسية الأجنبية يعترف ''إذا كانت هنالك في أحد الأيام محاكمة نورمبيرغ جديدة، فإننا جميعًا سنكون مذنبين''.
أراقت جبهة التحرير الوطني كذلك الكثير من الدماء. ونظرًا لاعتبار نفسها الممثل الأصلي الوحيد للشعب الجزائري، فقد قامت الجبهة بقمع منتقديها الداخليين، إضافة إلى الحركات الوطنية المنافسة لها، وذلك في إطار حملة إجرامية أدت إلى مقتل الآلاف في فرنسا، وفي الجزائر نفسها. ويصيب إيفانز كبد الحقيقة حين يصف الصراع بأنه حرب ذات طبقات متعددة لا تشن فقط من قبل الفرنسيين على الجزائريين، وإنما هي حرب كذلك من جانب جبهة التحرير الوطنية على نفسها، ومن جانبها ضد الجزائريين الآخرين، ومن قبل فرنسيين ضد فرنسيين.
لطخت الوحشية التصرفات الفرنسية في الجزائر منذ الاحتلال في عام 1830. وفي سردها الموثق والمرجعي للعقدين الأول، والثاني من الحكم الفرنسي الذي ورد في كتابها ''بالسيف والمحراث By Sword and Plough ''، تصف جينفر سيشنز، أستاذة التاريخ في جامعة آيوا الأمريكية، حالات القتل الفظيعة التي ارتكبتها القوات الفرنسية في منتصف العقد الخامس من القرن التاسع عشر – حين كانت تقتل المدنيين الجزائريين عمدًا، باستخدام الدخان، بعد أن تحشرهم في كهوف، وتشعل الحرائق في مداخلها. وشأنها في ذلك شأن بنيامين براور في كتابه الذي نشر عام 2009، بعنوان ''صحراء تسمى السلام A Desert Named Peace '' الذي تحرى كيفية ممارسة الفرنسيين للعنف المرعب باسم القيم المتحضرة في الصحراء الإفريقية في الفترة من 1844 – 1902، فإنه لا يوجد شك لدى سيشنز بخصوص إرث التوسع الفرنسي في الجزائر.
''أحدث الاحتلال العسكري إصابات بشرية مدمرة لحقت بالشعب الأصلي، كما أن الحرب الفرنسية تنتمي بصورة مؤكدة إلى حمّام الدم الذي اقترفه ''مرتكبو الإبادة الجماعية من المستوطنين''، الذي نسبت إليه من قبل المؤرخين المعاصرين. ولوصفه بالأرقام، تقدر سيشنز أن عدد سكان الجزائر انكمش في العقد السادس من القرن التاسع عشر إلى 2.3 مليون نسمة من أصل عدد كان 4 ملايين نسمة قبل الاحتلال.
كان غزو الجزائر التي كانت ولاية عثمانية في أوائل القرن التاسع عشر، من جوانب عديدة، منتجًا ثانويًا لتوترات سياسة فرنسية محلية. وكانت مملكة البوربون التي عادت إلى السلطة بعد هزيمة نابليون، تترنح على حافة الهاوية عام 1830. وتكتب سيشنز في هذا الصدد قائلة: ''في ظل مواجهة معارضة شعبية واسعة، وأغلبية لبرالية قوية في مجلس النواب، هندس الملك شارل العاشر، ورئيس وزرائه الملكي المتشدد، جولز دو بوليغانغ، الحملة ضد الجزائر في رهان أخير، ويائس من أجل الحصول على تأييد شعبي، وانتخابي''.
إن المأساة هي أن المفكرين الفرنسيين التقدميين لهذه الحقبة، مثل أليكسيه دو توكفيل، مؤلف كتاب ''الديمقراطية في أمريكا Democracy in America '' ظنوا أنهم سابقون لعصرهم من خلال تشجيع الاستعمار الاستيطاني – كما فعل البريطانيون في أستراليا، وكندا – بدلًا من الاستعمار على طراز القرن الثامن عشر الذي قام على العبودية والاحتكارات الاقتصادية. وتم النظر إلى استعمار الجزائر كذلك كحل للمشاكل الاجتماعية الفرنسية، مثل الزيادة السكانية غير المسيطر عليها، وازدحام المدن، والجريمة، والأمراض، والاضطرابات السياسية.
في نظرتها إلى حرب الفترة من 1954 – 1962، تستخلص سيشنز أن استيطان الجزائر كانت له جذوره التي هي من العمق، بحيث أنه حين حل إنهاء الاستعمار، كان من شبه المؤكد أن يولد عنفًا متطرفًا. وتكتب كذلك ''ولّدت الحرب الجزائرية أنظمة جديدة على جانبي البحر المتوسط، وإن آلام ذلك تستقر الآن في قلب الثقافة السياسية، والنقاش التاريخي في كل من الدولتين الاستعماريتين''.
في التحليل النهائي، فقد خسرت فرنسا الجزائر لأن مد التاريخ العالمي كان يتسع بقوة ضد الاستعمار. وقد أراد الشعب الجزائري الاستقلال، وحصل عليه. وأما ما إذا كانوا يستحقون نظامهم الحاكم، فهي مسألة أخرى – كما هي حال السؤال: كم سوف يستمر.