تعامل مبالغ فيه مع مفهوم «النقد الاجتماعي» أحال الدراما إلى برامج توعوية

تعامل مبالغ فيه مع مفهوم «النقد الاجتماعي» أحال الدراما إلى برامج توعوية

يتكرر المشهد السنوي على صعيد الأعمال الدرامية المحلية، تزداد الأمور زخما إعلاميا مع كل عام حين يدخل شهر رمضان الذي يعد الفترة الأكثر ازدحاما إنتاجيا بحكم العادة والنمط الخاص من المتابعة الجماهيرية، فيما تتجدد حاجة هذا الكم الكبير من الأعمال المقدمة في فترة قصيرة إلى دور نقدي من شأنه أن يتأكد فعلا من أن الكاميرات والكوادر التي نصبت مئات المرات خلال السنة الماضية، قامت فعلا بما يستحق كل ذلك العناء!

تراكم لا يفضي إلى شيء

وبدءا، لا يمكن قراءة الدراما المحلية بمعزل عن سياقها الزمني ليس فقط لضرورات الرصد والمقارنة، ولكن لأنها تجبرك على ذلك من خلال حالة مستمرة من التكرار ليس فقط على مستوى ما يقدم وإنما أيضا من ناحية الحوارات التي تصنعها والجدل الذي يدور حولها، إنها منظومة سنوية يعاد إنتاجها موسميا من خلال نسخ متطابقة من الوجوه والأحداث والمعالجات وحتى التعليقات المتقاطعة مع كل ما سبق، وهو ما يحتم علينا التساؤل ببساطة هل نحن فعلا أمام تراكم فني تم التأسيس له والبناء عليه خلال العقد الماضي على الأقل، أم أن المسألة تدور في فلك التقليد الاستهلاكي غير الصالح للاستخدام أكثر من مرة واحدة؟
في الحالتين.. تكون الثقافة هي المحك الوحيد، فإما حظيت بإضافة ملموسة عبر الإنتاج الدرامي القادر ببساطة أن يكون جنساً فنياً وإبداعياً له مشهده ومبدعوه ومنجزه ونقاده، وإما كانت أمام ظاهرة جماهيرية تستمد من الشعبي قدرتها على الاستمرار تبعا لطقوس واعتبارات خاصة قد لا تمثل إضافة ثقافية بالضرورة، ولكنها جزء من المؤشرات التي قد تقودنا لمعرفة ثقافة المرحلة ومزاجها الراهن، وهي مؤشرات لها ارتباطاتها بالعصر وطبيعة المتلقي الجديد، كما لها علاقتها المتجددة مع المجتمع وقضاياه، ومن هنا تحديدا سنحاول أن نرى الصورة من بعد، وعن قرب قدر الإمكان، مع إدراك خفي بأنه لاشيء سيجعل قراءة الأعمال الرمضانية تختلف في هذا العام، عن كل ما قيل في الأعوام الماضية، وهذا يكشف لنا ضمنياً أن محاكاة أي فعل تأخذ شيئا من سماته بالضرورة، وهذا لا يعني أننا بصدد قول معاد، عن فعل متكرر، ولكننا فقط نقرأ المشهد من خلال نماذج معينة فيه ونضع ورقة ملاحظات إضافية، حتى ولو كان فحواها الوحيد "لا جديد".

الفن رسالة.. لكن ليس هكذا

ما ميز هذه السنة، هو زخامة الأعمال الدرامية المحلية، وكان هذا من خلال مسلسلات كوميدية منها "سكتم بكتم" من بطولة فايز المالكي وعلي المدفع وعبد العزيز الفريحي، و"قول في الثمانيات" لحسن عسيري وراشد الشمراني وعمر الديني، إضافة إلى أعمال هي "فينك" و"مباشر ولكن" و"أيام وليالي"و"العميل كوبرا" وغيرها، إضافة إلى المسلسل الشهير "طاش".
وبعد مشاهدة نصف الحلقات، في ضوء معرفتنا بأنها الحلقات الأقوى، فإن أبرز ما يمكن ملاحظته هو أن الجميع وضع عنوانا عريضاً هو "معالجة قضايا المجتمع" وهذه غاية لا نختلف عليه أبدا، ولكننا سنختلف كثيرا على الأسلوب المتبع ضمن الوسيلة المستخدمة في سبيلها.
دون أن نطرح أسئلة افتراضية عن رسالتي الفن والإبداع، علينا أن ندرك أن هذا الفن له قواعده، وأن ذلك الإبداع يخضع لاشتراطات تتدرج بين توفير الحد المهني الأدنى كمرحلة أولى وصولا إلى التميز في الطرح كمرحلة ثانية حيث يكون المجال متاحا بعد ذلك للحديث عن إمكانية مشاهدة عمل "متجاوز" بالمعيار الفني طبعاً، وهي المرحلة الثالثة التي لا يصل إليها أحد غالباً.
لقد قدم الممثلون والفنانون عملاً جيدا هذا العام، بذلوا مجهوداً مشكوراً، استقدموا طاقات فنية وإخراجية وتأليفية، لكن ماذا لو فكرنا في إخضاع كل هذا النتاج الضخم إلى معايير فنية بديهية، أولها الإضافة الفعلية التي جاءت بها هذه أعمال بهذا الحجم على المجتمع من ناحية، وعلى الثقافة المحلية من ناحية أخرى، وفي السياق ذاته.. سنستخدم جانباً مسحياً يستمد نفسه من التأكيد الذي بدا واضحا هذا العام من القائمين على التلفزيون حيال أهمية النقد المتخصص والجماهيري للأعمال المقدمة، ثمة إدراك عام أن إدراك رضا الجميع غاية مستحيلة، ولكن قانون النسبة والتناسب حتى في إطاره الانطباعي المحض، يقودنا إلى مؤشر ينبغي الوقوف عنده في تقييم هذا النتاج ومعرفة جدواه وتأثيراته. وفي هذا الجانب .. فإن جولة سريعة في مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب، ستكشف أن كثيرا من آراء المعلقين كانت تتحدث بشيء من عدم الاقتناع، فيما نحى بعضها إلى التذمر، بينما اتخذ آخرون أسلوب ساخرا، وهذا لا يلغي على أية حال وجود أصوات تتكلم بنبرة إعجاب واضحة.
أما في الجانب النقدي - حتى لو كان انطباعياً- فأنه سيقف أولاً عند تطبيق المبدأ "الرسالي" في هذه الأعمال، لتظهر لدينا وبشكل غير مسبوق ربما أن ثمة تطبيقا مبالغاً فيه لهذا المبدأ، ولمحاولة اكتشاف ما وراء ذلك فسنقف لوهلة عند حقيقة أن "معالجة قضايا المجتمع" لطالما كانت القلعة الأخلاقية التي يتمترس خلفها الفنانون والمنتجون حين يواجهون الصوت النقدي المهني، أو حتى الصوت الاجتماعي المحض المنطلق من اعتبارات أخلاقية مشابهة تتعلق بمراعاة الخصوصية والعادات وما شابه، والسؤال هنا ..هل اختارت الأعمال الدرامية المحلية مضاعفة هذه الجرعة تحديدا، لتنضوي تحت الطائلة القيمية التي يفترض أن تحميها بحاجز مجازي من سهام النقد وفي الوقت ذاته، تضمن لهم البقاء ضمن عباءة الولاء الذوقي لجمهورها ذي القواعد الاجتماعية الواضحة.
سواء حدث هذا عنوة، أو جاء طارئا أثناء إعداد العمل، فإن الناتج النهائي كان عددا من الأعمال التي يعلو فيها طابع النصح أو ما يعرف في الرواية بأسلوب "الراوي العليم" والذي تتسم حواراته بالمثالية والخطاب المباشر في توجيه ما يريد قوله، لقد حدث هذا كثيرا في الدراما المحلية لهذا العام لدرجة أنك تتخيل أسلوباً يمكن تسميته "الممثل الحكيم" حتى في تلك النماذج التي كانت تقدم نفسها ضمن الشكل الكوميدي، لدرجة أنك تشك أحيانا في ما إذا كنت تشاهد عملاً فنياً تقوم على مفارقة وعقدة ونهاية، وليست مشاهد توعوية تجعلك في انتظار أن تختتم بنزول شعار وعبارة إرشادية، من نوع "من أجل سلامتك، وسلامة الآخرين"مثلا.
إذا فرضنا أن خبرة ممارسة العمل الفني المتنوع لم تكن كافية لتعلم عددا من الفنانين المعروفين بأن رسالة الفن لا تقوم على أنقاض قواعده وأبجدياته الأساسية، فإن ثمة من خدعهم غالبا حين أخبرهم بأن معالجة المشكلات تقوم على عرضها كما هي، أو بمعنى آخر دون معالجة درامية أو خلق مفارقات كوميدية لها شكلها وتصاعدها الموضوعي، هذا لو استثنينا حالات أخرى، تحدث فيها المعالجة بشكل طفيف يقوم في المساحة الأكبر منه على المبالغات، وتفشل غالبا في وضع أساس فني مقنع لعملية التحول الدرامي باتجاه نهاية الحلقة.

"فقدان الحيلة" بمفهومه الدرامي

ملمح آخر استمر تقديمه في هذا العام وتمثل في تقديم الشخوص في حد ذاتها كموضوع للسخرية، ويتضمن هذا استخداما مبتذلا للهجات المحلية أو الإقليمية، وظاهرة كهذه تزداد مع انخفاض المستوى الفني بين عمل وآخر، بينما اتجهت أعمال أخرى إلى حشد أعداد كبيرة من الممثلين العرب دون وجود رابط مفهوم أو توظيف قابل للاستيعاب بينهم، في الغالب ستجد أنك أمام حالة متكررة من "فقدان الحيلة" هذا في حال اعتقدنا بوجود الروية في دراسة العمل وإنتاجه، أما الحالة الأخرى فهي الاستعجال في تقديم أعمال "سريعة التحضير" لتكون جاهزة قبل رمضان بأيام، وتدخل في منافسة التعميد المحمومة.

وحدة المبدأ وتفاوت التطبيق

وإذا كان "طاش" قد اعتمد على خبرة أبطاله في تقديم الجرعة الكوميدية الخالصة ضمن الإطار النقدي، إلا أن بعض مشاهده كانت تطغى عليها نبرة المبالغة كما هو الحال في الحلقة التي عالجت موضوع الفساد والمحاسبة، حيث اضطر السدحان لتأدية دور تراجيدي بصوت متهدج في المشهد الختامي ليدافع عن نفسه أمام محققين يسائلونه عن اختلاس آلة كاتبة بينما كانت اللقطة الفنية ستوصل الفكرة تماما إذا انتهت الحلقة عند بداية هذا المشهد فحسب، في جوانب أخرى.. طاش هو أقل الأعمال المحلية تقريباً من حيث الوقوع في مأزق الخطابية، وهو كذلك لا يجد مشكلة في إعادة تقديم شخوصه المعروفة كل عام على اعتبار أنها تحولت إلى قوالب فنية ثابتة لأداء حلقات ذات أفكار مختلفة، في الوقت نفسه، تظهر بعض الحلقات كمسرح محايد لعرض فكرة ما، فقط لمجرد عرضها، وتظهر أخرى على درجات متفاوتة من الرمزية، يظهر الرهان على الموهبة والعمل على التفاصيل الشكلية واللفظية واضحا في حلقات أخرى، يجيد "طاش" وضع الحدود بين المبالغة الفنية والمبالغة المحضة، تماما كما يدرك أن حلقاته لا تنجح كلها، ولكن أكثر من حلقة منها تترك أثراً جماهيرياً.
في عمل "سكتم بتكم" لفايز المالكي، حيث المنافسة في وقت العرض مع "طاش"، يناقش بطل العمل من خلال تقديمه لشخصيتي "دحيم" و"مناحي" المتناقضتان موضوعياً عددا من القضايا الاجتماعية كل من زاويته، في وجود الأسرة البسيطة والبيت المتواضع والانطباع شديد الانتماء إلى البيئة المحلية، حضرت الجرأة في اختيار الموضوعات، تماما كما حضر الاشتغال الكاريكاتوري البحت على الشخصيات، في حين كانت الخطابية العالية حداً فاصلا متناهي الانكشاف بين الفكرة والأداء، بل أنها تبدو كنهاية اختيارية قبل نهاية العرض، في الوقت نفسه كان الانشغال بتكريس لزمة لفظية مرتبطة بالمسلسل أمراً واضحاً لا يخلو في أغلب أحواله من الإقحام المجرد للمفردة ضمن الحوارات، وقد حدث هذا مع جملة "مع نفسك" ذات الانتشار الشبابي الواسع والتي كان المالكي يستخدمها مرارا، "سكتم بكتم" وبالرغم من إيحاء الصمت المشوب بالتكتم الذي يوحي به العنوان، إلا أنه كان أحد أكثر الأعمال كلاماً إن لم يكن أكثرها على الإطلاق، حجم وطبيعة الاعتداد بشعار المعالجة الاجتماعية بشكل أكثر مما يجب من ناحية، ومن ناحية أخرى صنعت علامات التعجب سياجاً حول لغة أفعل التفضيل التي كثيرا ما يستخدمها منتجو المسلسل في التصريحات الإعلامية، ليس ثمة معيار يمكن به قياس ذلك حتى في وجود ثقافة درامية مؤسسة، ناهيك عن أعمال موسمية أغلبها بلا تاريخ ولا منهجية، وبخلاف ذلك فمتابعة العمل لا تمنح نفس الدرجة من الحماس الانطباعي وإن كان يحسب لخطابيته العالية النبرة أنه أعفته من الوقوع في فخ الابتذال المجرد فقط من أجل خلق دوافع الضحك، في أفضل الأحوال، نحن أمام مسلسل محلي يناقش قضايا اجتماعية بموضوعات متجاوزة للسائد أحيانا ولكن أداءها يبقى ضمن الحدود العادية للتوقع لا أكثر.
أما "قول في الثمانيات" فقد جمع مجددا الفريق المكون من حسن عسيري وراشد الشمراني وعمر الديني وحبيب الحبيب في حلقات متصلة الشكل ومنفصلة الموضوعات وضمن بيئة درامية صاغها علاء حمزة، كان المتوقع لها أن تمثل تجديدا نوعيا بحكم اختلاف المسلسل للمرة الأولى منذ أربع سنوات من تقديم "بيني وبينك" والذي اختلفت بنيته كلياً في النسخة الأخيرة، العمل الرمضاني الجديد كان فرصة لإعادة اكتشاف فريق العمل ضمن أدوار جديدة، وفر مساحة أكبر وأكثر تناغماً مع قدرات الشمراني من خلال إعادة تقديمه عبر شخصيته الشهيرة "أبو هلال"، بينما استمر عسيري في تقمص دوره الثابت تقريباً والمتمحور كلياً حول بيئته الثقافية والاجتماعية مع السمات الشخصية واللفظية والأدائية نفسها، وهذا ليس موضع انتقاد على أية حال، في حين قدم "الحبيب" شخصية بدوية صرفة أجادها بطريقة أكثر مما كان يفعل قبل عام مع كركتر الشاب العصري، ووجد عمر الديني نفسه محاصرا بدائرة مستمرة من الخوف المتكرر في شخصية "شجاع" حيث الاسم على غير المسمى، وحيث الأداء الذي لم يكن يخل من بعض المبالغة أحياناً، والتي قد تثير سؤالا من نوع.. هل كان العمل غير العادي الذي قدمه ضمن شخصية "مامادو" هو سقف كفاية الرجل؟
البعض قال أن "قول في الثمانيات" كان في العارضة، والحقيقة أن بين هذا النوع "الجميل حقا" من الأهداف وبين العارضة مسافة قليلة جدا، بل أن العارضة تكون جزءا أحيانا من اكتمال مشهد دخول الكرة إلى المرمى، لكنها في أحيان أخرى تحول دون دخولها إليه، وهنا ببساطة يكمن الفرق بين عمل يسجل فيك هدفاً ذوقيا وفنياً ملعوباً، وبين آخر لا يتجاوز في نظرك فرصة قد لا تشعر حتى بالحسرة على ضياعها، الجمهور وحده يستطيع حسم الموقف، لكنه غالبا يعرف أن شيئا ما كان موجودا في "إخواني وأخواتي" والجزء الأول من "بيني وبينك".. لم يعد موجودا في ما جاء بعدهما.

تغيرت قواعد اللعبة

بقي أن نقول إن الأعمال المحلية نجحت في تقديم نجوم واعدين على قدر عال من الموهبة كالنجم الشاب عليان العمري، كما تضمنت ظهورا مميزا للفنان هشام عبد الرحمن من خلال عمل كرتوني ثلاثي الأبعاد شارك في تأليفه ومثل فيه، في المقابل كان مسلسل "مباشر ولكن" تجربة غير قابلة للاستهلاك الذوقي تنطوي على تطبيق غير مسؤول لمبدأ تشجيع الشباب، وعموما .. يجب أن نعرف أن الإنتاج الكوميدي والدرامي قد دخل مرحلة جديدة مع تعدد الأطراف والأنماط الإبداعية والفنية، يوجد طاقات موهوبة ووسائل عصرية، إنها المعادلة التي جاء بها الإعلام الجديد وقدمها مباشرة للجمهور وجعله حكماً محايدا على مشهدها وصانعاً حقيقياً لنجومها، وهو ما يعني مزيدا من التنافسية التي يجب أن يعي متطلباتها ذلك النتاج الذي مازال يدور في فلك التقليدية، اكتشاف الفارق لم يعد أمراً بالغ الصعوبة فالجمهور أصبح أوسع أفقاً ثقافياً ونقدياً، والمجتمع بات أعلى مقدرة على صنع النكتة وتخيل الفكرة وتجسيد القصة، وهو الجانب الذي أدركه المسؤولون في التلفزيون حين أكدوا على متابعتهم لردود الفعل والنقد الجماهيري عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى تعزيز القدرات المهنية في لجان التقييم والاختيار، وهو ما من شأنه الارتقاء بمستوى المخرجات الفنية التي تصب بدورها في شريان المنتج الثقافي والإعلامي المحلي.

الأكثر قراءة