Author

التقدم إلى الخلف

|
يقول جورج أورويل في كتابه 1984: "أفضل الكتب هو الذي يقول لك ما كنت تعرفه من قبل"، وكما أورد جلال أمين هذه العبارة في كتابه ليتحدث عن كتاب آخر لأورويل أوردها هنا للحديث عن كتاب جلال أمين "خرافة التقدم والتأخر: العرب والحضارة الغربية في مستهلّ القرن الواحد والعشرين". كتاب وإن ترددت في حمله بين يديك بسبب ضخامة اسمه، ستجد نفسك تقلب سريعا غارقا في متعة أسلوبه الشيق والخفيف للحديث عن أمور بالغة في التعقيد. إن ما يميز هذا الكتاب هو السلم الخفيّ الذي وضعه الكاتب بحرفية عالية لك أيّها القارئ، وبينما تنتظر المصطلحات المركبة التي لا تستطيع نطقها والدوامات اللانهائية من الفلسفة تجد نفسك مع رجل يروي وجهة نظره التي تشترك معه في بعض زواياها وكأنكما تتشاركان المجلس والقهوة. يقول جلال أمين: إن لكل عصر خرافاته وأساطيره، وإن أسطورة عصرنا هذا هي مصطلح "التقدم" الفضفاض، فيأتي ليحلل ويوضح فكرة التقدم وكيفية تخليص عقولنا من أنّ الحضارة تعني بالضرورة نبذ الماضي والتخلص منه والانطلاق للأمام فقط! الفصول وتقسيمها في الكتاب أيضا تساعدك على تنظيم أفكارك والعودة إليها مرات ومرات، يبدأها أولا بخرافة التقدم والتأخر التي يورد فيها أمثلة حية ونظريات حول التقدم ثمّ يطرح أسئلة لتنعش عقولنا بالتفكير. ثمّ يتحدث عن عقدة الخواجة في مصر - كنموذج - ونحنُ عندما نطلع على حديثه عن عقدة الخواجة لا يمكن أن نعترض أو نقول: هذا لم يحدث عندنا أيضا! أوردت عبارة أورويل في البدء؛ لأن كتاب خرافة التقدم والتأخر هو أحد تلك الكتب التي تأتي بما تعرفه من قبل، لكن فوضى أفكارك المتناثرة على مدى الحياة تحتاج إلى أن توضع في صناديق صغيرة متجاورة ومعنونة وهذا ما تصنعه قراءة الكتب. يناقش جلال أمين أيضا مصطلحات مستوردة ومعرّبة تتسم باتساعها وكونها لا تحتفظ بمعنى محدد يمكن عن طريقه قياسها. مثل هذه العبارات "التنمية الاقتصادية، التنمية الإنسانية، تمكين المرأة، الحرية". هذه المصطلحات الضخمة التي لا يمكن أن تحدد أو تُقاس هي محلّ مشكلة فعلية؛ فكل دولة من دول العالم - النامي أو الثالث أو ما يتكرم به الغرب ويسميه - تطمح لحلّها وتحقيق وجودها لتتبع ركب الدول المتقدمة. ولكن هل كل ما يشيد به الغربيون ويدعون إليه صالح للتطبيق في مجتمعات ودول أخرى؟ يورد الكاتب على سبيل المثال لا الحصر وفي شرح لما تعنيه الشفافية والحرية الإعلامية الغربية قصة لاختطاف طفلتين بريطانيتين، وكيف حوّل الإعلام حكاية في منطقة صغيرة وشبه معزولة من بريطانيا إلى مقر لبثّ محطات التلفزيون وتغطيات الصحف والمجلات في فترة زمنية ليست بالقصيرة. كيف انتُهكت خصوصية الأسر وسكان المنطقة بحجة حرية الإعلام، وكيف أثار ذلك هلع الكثير من الأسر حول بريطانيا وليس تلك المنطقة فقط، إذ لم يعد الأطفال في مأمن من الخطف والقتل والتعذيب! وحتى وإن كانت المعرفة بهذه القصص مفيدة في أمور كثيرة واقتبس من جلال أمين قوله: إن نشر المعرفة بهذه الأمور وبهذه الدرجة قد لا يكون نفعا خالصا. يورد الكاتب أيضا وجهة نظره بالمختصر المفيد مع ترك أفكاره كبطاقات ملاحظات صغيرة نحملها ونواصل البحث عن نقاطها في مواضيع مثل الديمقراطية والرأسمالية وحقوق الإنسان التي يفرق بينها وبين حاجات الإنسان. جانب مضيء آخر يضاف لهذا الكتاب هو إيراد الكاتب لعناوين لكتب أخرى مما يشجع القراء العنقوديين - أمثالي - للبدء في البحث عن هذه العناوين، وهذا من أحد المداخل المتعددة التي يمكن للقراء من خلالها العبور للمحتوى. ولقراء آخرين أختار الحديث عن مفاصل تاريخية وأحداث قريبة وبعيدة ليقرب لهم الصور ويؤكد لهم صحة بعض النظريات التي يؤمن بها ويؤمنون بها، من بين هذه الأحداث الـ 11 من أيلول (سبتمبر) 2011، أحداث سجن أبو غريب، والحروب العالمية وغيرها. مضى وقت طويل على مروري بكتاب خفيف وذي محتوى عميق في الوقت نفسه، وجاء كتاب جلال أمين كهدية. هذا الكتاب الخطوة الأولى للاستنارة، إنه كتاب لكل فرد يطمح أن يبتهج يوما باستعادة أمجاد الحضارة الإسلامية العظيمة ولكنّه ما زال يتساءل: أين الخلل؟
إنشرها